أي نتيجة تفرزها الانتخابات النيابية المقبلة لن تكون كافية لإحداث تغييرٍ جذري وحصر السلاح في يد الشرعية وإخراج لبنان من نزاعات المنطقة، ما لم يتغيّر المزاج الشيعي المؤيّد لـ»حزب الله»، هذا ما يُستخلص من التجارب السابقة. فانطلاقاً من التعددية المجتمعية في لبنان والنظام الطائفي والميثاقية، يُحدّد الأقوى والأضعف سياسياً من داخل طائفته. وتِبعاً لذلك، إنّ تحقيق قوى 14 آذار أكثرية نيابية في عامي 2005 و2009 لم يمكّنها من تأليف حكومة بلا «حزب الله»، إذ إنّ البلد محكوم بالديموقراطية التوافقية وليس الديموقراطية الأكثرية، وغياب «حزب الله» عن السلطة والحكومة يعني غياب المكوّن الشيعي، وبالتالي فقدان الميثاقية. وبالميثاقية وتأييد طائفته يظلّ «حزب الله» محصّناً بدوره وخياراته وسلاحه.
هذا الواقع تفهمه كلّ القوى السياسية الداخلية والخارجية، لذلك حتى الولايات المتحدة الأميركية التي تصنّف «حزب الله» إرهابياً تتعامل مع الحكومات اللبنانية التي يتمثّل فيها. وعندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في آب 2020 لبنان وسُئل عن لقائه ممثّل «حزب الله» على رغم أنّه مصنّف إرهابياً، أجاب: «إنّ «حزب الله» انتخَبه الشعب اللبناني وممثّل في البرلمان». وانطلاقاً من ذلك أتت مخاطبة رئيس حزب «القوات اللبنانية» للطائفة الشيعية، في قداس شهداء المقاومة اللبنانية، الأحد الفائت. جعجع دعا جميع اللبنانيين الى تحمُّل مسؤولياتهم والاقتراع في اتجاه تغيير الأكثرية الحاكمة في الانتخابات النيابية المقبلة، لكنّه خصّص الشيعة تحديداً، داعياً إيّاهم الى «الانقلاب» على «حزب الله» الذي «ذَلّ اللبنانيين وجَوّعهم»، ومن بينهم الشيعة.
حتى الآن لم يعلّق «حزب الله» على كلام جعجع، وفيما قال مسؤول في «حزب الله»: «لا تعليق»، قال نائب في «الحزب»: «لم أسمع جعجع ولم أقرأ أو أطّلع على خطابه». وعن نقمة جمهور «الحزب» و»اللعب السياسي» على هذا الوتر، أجاب نائب «حزب الله»: «يجب النزول الى هذا الجمهور وإجراء استطلاع رأي عمّا إذا كان ناقماً أم لا، مَن أجرى استطلاعاً للرأي وأخذ المزاج اللبناني الآن؟».
مخاطبة جعجع الشيعة اعتبرها البعض أبعد من الانتخابات النيابية وبداية تسويق نفسه لرئاسة الجمهورية، في بيئة يعلم أنّها لا تؤيّده بل لا تتقبّله. في المقابل رأى البعض أنّ دعوة جعجع الشيعة ستجعل ابناء الطائفة يتمسّكون بـ«حزب الله» أكثر. في المقابل، بالنسبة الى «القوات»، إنّ «رئاسة الجمهورية حق مشروع على غرار تكبير حجم الكتلة النيابية، وهذا حق لكلّ فريق سياسي أن يسعى إليه، لكنّ خطاب جعجع لا علاقة له بهذا الأمر، بل هو انطلق من تشخيص واقع الحال الذي قال فيه بوضوح إنّ الدولة مخطوفة وهناك تحالف بين الخاطفين والفاسدين، وهذا التحالف أدّى ويؤدّي الى هذا الانهيار والفشل والعزلة، وبالتالي يجب تحرير هذه الدولة من خاطفيها وفاسديها لقيام الدولة في لبنان، وتحرير هذه الدولة يستدعي حَض الرأي العام وجميع اللبنانيين بلا استثناء على تحمّل مسؤولياتهم والاقتراع في الاتجاه الصحيح بغية إخراج لبنان من أزمته الكيانية الوجودية المالية».
في هذا السياق تحديداً أتى توجّه جعجع الى الشيعة، بحسب ما تقول مصادر «القوات»، فـ«المجتمع اللبناني تعدّدي، وإذا كانت نتيجة الانتخابات أنّ البيئة الشيعية لم تقترع أو صوّتت لـ«حزب الله»، فعندها ماذا يُمكن أن نفعل؟ إنّ «حزب الله» يمثّل بيئته، ويجب أن تكون هذه البيئة ضدّ «الحزب» ليس كمكوّن، بل ضدّ دوره وخياراته والاتجاه الذي يسير فيه، وهذا لا يعني عزله بل سياسة تصحيح، فلا يجوز أن يكون هناك حزب خاطف البلد والدولة والشعب بمن فيهم الشيعة بسياسات أفقرت الناس وذلتهم وجوّعتهم وعزلت البلد وأوصلت لبنان الى هذا الوضع». وبمقدار أنّ الوصول الى أكثرية نيابية تعيد انتاج سلطة سياسية جديدة من مسؤولية جميع اللبنانيين، إلّا أنّها أيضاً، بالنسبة الى «القوات» مسؤولية شيعية بأن يجري الاقتراع في اتجاه مختلف لكي لا يكون هناك نوع من تطويب وتكريس لواقع تأييد «الحزب» داخل بيئته. فخروج «حزب الله» من الانتخابات بـ»تسونامي شيعي» يفرض واقعاً ما، وحصول اقتراع ضدّ هذا التوجه أمر مختلف».
لكن هل سبب الازمة «حزب الله» فقط؟ وإذا تراجع تمثيل «الحزب» النيابي، هل يتوقف الفساد؟ وهل إنّ «حزب الله» هو الذي منع لبنان من أن يكون منتجاً ومصدّراً؟ وهل إنّ «حزب الله» هو الذي أرسى السياسات الاقتصادية الريعية والاستدانة والزبائنية والهدر وسرقة المال العام؟ تجيب مصادر «القوات»: «لا يمكن أي دولة في العالم محتلّة ومصادر قرارها الاستراتيجي أن تقدر على ترسيخ سيادتها وقيام مؤسسات فاعلة ودورة اقتصادية طبيعية وقضاء نزيه ومساءلة ومحاسبة». لذلك، يجب، بالنسبة الى «القوات»، العودة الى «الخطيئة الاصلية»، وهي أنّ «الأزمة التي نعيشها سببها الاساس والرئيس هو تغييب الدولة، وعندما تغيب الدولة ندخل في منطق المزرعة والحصص والتبعيات والزبائنية والفساد والمحسوبيات.. بينما عندما يكون هناك دولة وسلاح واحد وقرار ممسوك يختلف الأمر».
وتشير الى أنّ «لبنان عندما كان سويسرا الشرق، ولم تكن صناعاته استثنائية بل حقّق هذا الموقع انطلاقاً من طبيعته وسياحته وتكوينه، ومن أنّه المدرسة الأولى والجامعة الأولى والمستشفى الأوّل والفندق الأول في الشرق، ولا يُمكن وضع خطط لاستنهاض أي من القطاعات في ظلّ غياب الدولة لأنّ هناك وعاء «مفخوتاً» ولبنان تحوّل بؤرة لانطلاق المواقف ضد دول خليجية ولتنظيم أمور أمنية ضد دول ولإمرار المخدرات... وبالتالي، إنّ المشكلة الأساس هي في تغيبب الدولة وأنّ هناك قوى سياسية بدلاً من أن تواجه تغييب الدولة استسهَلت التحالف مع الطرف الخاطِف للدولة لكي تحقّق مكاسب شخصية ومنفعية لها بعيداً من مصلحة الشعب اللبناني والدولة».
وبالتالي، بالنسبة الى «القوات»، إنّ هذا «التحالف الشيطاني» بين الخاطفين والفاسدين أوصل لبنان الى ما وصل إليه»، لذلك يجب معالجة «الخطيئة الأصلية»، أي تغييب الدولة، وعندما نعالج هذه الخطيئة نبدأ بمعالجة الأمور الأخرى تباعاً».