معبِّرة جداً البرقية الجوابية التي تلقاها الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله من رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران السيد إبراهيم رئيسي على تهنئته بمناسبة انتخابه رئيساً للجمهورية الإسلامية الايرانية، وأهميتها تكمن في تأكيد المؤكّد لجهة تظهير، للمرة الألف، النظرة الإيرانية إلى "حزب الله"، وهذه المرة على لسان الرئيس الإيراني.
مَن يقرأ الرسالة الجوابية للرئيس رئيسي يخرج بانطباع واضح وحاسم ان لا علاقة لـ»حزب الله» بلبنان «الحرية والسيادة والاستقلال» الذي تحدّث عنه بيان مجلس المطارنة الموارنة الأخير، مُحذّراً من انّ هذا اللبنان بات على «مشارف الزوال بسبب قوى إقليمية ومحلية تابعة لها»، وقاصداً بطبيعة الحال طهران والحزب.
ماذا في مضمون رسالة الرئيس الإيراني لأمين عام «حزب الله»:
أولاً، المقاومة الإسلامية في لبنان، اي «حزب الله»، هي «أمل الأمة الإسلامية بحق».
ثانياً، «في ظل التوجيهات السياسية لسماحة الإمام الخامنئي «مد ظله العالي» أنّ المقاومة الإسلامية (أي «حزب الله») تستطيع أن تقدم نموذجاً فريداً في العمل السياسي يتطابَق مع الأسس الدينية، في إطار ترسيخ الاستقلال الوطني من خلال آفاق رحبة من الاستقرار والتطور والرفاه».
ثالثاً، «إنّ جغرافيا المقاومة الإسلامية لم تعد مقتصرة على لبنان وفلسطين... كما أنّ جهدها لا ينصَبّ فقط على مقارعة الظالمين والمعتدين والمختلين... إذ ان المقاومة الإسلامية اليوم قد تحولت إلى مدرسة متكاملة، تحمل لواء الأمن والاستقرار في لبنان، وتنادي بتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحفّز على التطور وتدعو إلى السلام المَبني على العدالة على مستوى المنطقة».
ويتبيّن بشكل جَلي، انطلاقا من النقطة الأولى، ان الأمة الإسلامية تعوِّل على المقاومة الإسلامية («حزب الله») تحقيقاً لمشروع الأمة، فما دخل لبنان واللبنانيين بالأمة الإسلامية؟ وإذا كان من هدف مشروع للبنان واللبنانيين هو تحقيق الأمة اللبنانية، وليس الأمة المسيحية ولا الإسلامية، فإنّ هذا الدور للحزب يتنافى مع دستور لبنان وهويته التعددية ودوره التاريخي.
وفي النقطة الثانية يمكن التوقّف أمام أمرين: الأول ان المقاومة الإسلامية (اي «حزب الله») تأخذ توجيهاتها من الإمام الخامنئي، اي انها تتلقى تعليماتها من خارج الحدود اللبنانية، بما يتعارض مع الدستور ودور الدولة ويتنافى مع السيادة.
والأمر الثاني ان المقاومة الإسلامية (اي «حزب الله») «تستطيع أن تقدم نموذجاً فريداً في العمل السياسي يتطابق مع الأسس الدينية»، وعدا عن ان ما تقدّم يشكّل تدخلا إيرانيا في الشؤون اللبنانية، ودعوة إيرانية صريحة لقيام نظام ديني في لبنان، فيما الدولة في لبنان مدنية وأي محاولة لتغيير هويتها المدنية بتحويلها إلى دينية هي محاولة انقلابية تندرج في سياق الانقلاب المتواصل منذ العام 1990 على الدستور.
وفي النقطة الثالثة يؤكد الرئيس الإيراني ان دور المقاومة الإسلامية (أي «حزب الله») لا ينحصر في جغرافيا محددة، اي لا يعترف بكيانات وسيادات ودول، وتسمية «جغرافية المقاومة الإسلامية» تحمل أكثر من دلالة، أبرزها انّ لهذه المقاومة جغرافيتها الخاصة التي لا تعترف بالجغرافيا القائمة، وذلك في سياق سعيها للأمة الإسلامية.
ولقد كان الرئيس الإيراني واضحا بتشديده على انّ دور المقاومة الإسلامية (اي «حزب الله») «لا يقتصر على لبنان وفلسطين»، ما يعني ان من يحدِّد دور هذه المقاومة هو طهران، وهذا معروف طبعا، لكنّ المجاهرة الإيرانية به مهمة، الأمر الذي يعني الآتي:
أ - انّ قرار «حزب الله» في دوره الأساسي المتصل بالسعي إلى قيام الأمة الإسلامية هو في طهران.
ب - انّ دور الحزب الأساسي يتنافى مع الدستور اللبناني ويتعارض مع نهائية الكيان اللبناني.
ج - انّ الحزب يشكل جزءا لا يتجزأ من المشروع الإيراني والثورة الإيرانية، وانّ مرجعيته في طهران، وقراره في طهران.
د - انّ قرار الحزب في الشأن اللبناني يعود إليه وحده، فيما قرار الحزب في شأن الأمة الإسلامية ودوره في نشر الثورة يعود إلى طهران وحدها.
هـ - انّ الحزب يميِّز بين دوره المرحلي الذي يتساكَن فيه مع الوضع اللبناني، وبين دوره الاستراتيجي بأسلمة لبنان.
و- انّ قناعة الحزب وتوجهاته هي إسلامية، وتتعارض مع طبيعة الدولة اللبنانية المدنية ونهائية الكيان اللبناني.
واللافت أيضاً يكمن في طريقة مخاطبة الرئيس الإيراني لأمين عام «حزب الله»: «أخي العزيز، حجة الإسلام والمسلمين، سماحة السيد حسن نصرالله دامت بركاته». وهذه المخاطبة، إن دلّت على شيء، فعلى مكانة نصرالله المهمة والبارزة ضمن الهرمية القيادية للثورة الإيرانية.
ولا يوجد في عقل رئيسي اي حساب للبنان الذي يتعامل معه كمساحة نفوذ لـ»حزب الله» فقط، وليس ككيان قائم بذاته، إنما كل تركيزه على دور الحزب كثمرة للثورة الإيرانية، ويقول في رسالته: «الدور الذي تؤديه المقاومة الإسلامية (اي «حزب الله») في ترسيخ الأمن والأمان في مواجهة إرهاب الدولة (إسرائيل) والإرهاب التكفيري قد حَوّل هذا التيار المجاهد الثوري إلى عنصر مؤثر في المعادلات الإقليمية... حيث لا يمكن لأي طرف سياسي أو عسكري أو أمني في المنطقة، ولا لأي قوة دولية، أن يتجاهلا وجوده».
وهذا يعني ان «حزب الله» بذاته تحوّل إلى معادلة إقليمية في سياق دوره المثلّث: مواجهة إسرائيل، مواجهة التكفيريين، تعزيز مقومات الأمة الإسلامية. ولا يمكن لواشنطن او غيرها ان تتجاهل الحزب ودوره المؤثر إقليمياً، بالنسبة لرئيسي طبعاً.
وتأسيساً على كل ما تقدّم، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه في ضوء رسالة رئيسي لنصرالله: كيف يمكن بناء دولة وتعايش وإرساء استقرار مع فريق سياسي مؤمن بمشروع ديني يتعارَض جذرياً مع المشروع اللبناني، ويشكل جزءا لا يتجزأ من الثورة الإيرانية، حيث ان «حزب الله» لا ينفِّذ أجندة إيرانية فحسب، إنما هو في صلب هذه الثورة ربطا بقناعاته الدينية الإيمانية؟
وقد أسقط رئيسي في كلامه كل السردية التي حاول «حزب الله» ترويجها، أقلّه بعد خروج الجيش السوري من لبنان، بأنّ دوره ينحصر في مقاومة إسرائيل وترسيخ معادلات الرعب معها دفاعاً عن السيادة اللبنانية، فيما مواجهته لإسرائيل تدخل في سياق المشروع الإيراني. وبهدف تخفيف الضغوط اللبنانية عليه، فإنه لا بأس من التذرّع بأنّ سلاحه هو لردع تل أبيب التي لا يمكن ردعها بسلاح كلاسيكي، وفي ظل رفض أميركي لتسليح الجيش اللبناني إلى آخر هذه المعزوفة من الحجج التي تتردّد يومياً...
وبعد أن أكد الرئيس الإيراني المؤكَّد مجدداً لجهة هوية «حزب الله» الإيرانية ومشروعه الديني، فإنه يصبح مشروعاً تكرار الأسئلة نفسها: هل يمكن الوصول إلى تفاهمات مع حزب لا يؤمن بلبنان، ومشروعه أكبر من لبنان؟ ويعمل على تغيير طبيعة النظام اللبناني من نظام مدني إلى ديني؟ خصوصاً انّ سلاحه مرتبط عضوياً بمشروعه الديني الثوري الإيماني؟
إنّ الإجابة محسومة باستحالة الوصول إلى اي تفاهمات مع «حزب الله»، ما يعني انّ الصراع سيتواصل فصولاً، ويأخذ في كل مرحلة شكلاً مختلفاً إلى أن ينجح الحزب في تغيير هوية لبنان ودوره ويحوله إلى دولة إسلامية، أو يضطرّ، نتيجة الممانعة الداخلية والخارجية لمشروعه، (والداخلية هي الأهم والأبرز والمكونة من جماعات وأفراد) إلى التراجع والتسليم بدور لبنان التاريخي وهويته وحياده وسيادته ونهائيته والدولة كمساحة مشتركة لجميع اللبنانيين.