ما من شك في أنّ الشرق الاوسط دخل في مرحلة جديدة بعد الانسحاب العسكري الاميركي من افغانستان. ولقد اتّضح أنّ كثيراً من الامور كان مُخططاً لها، كمثل ترك هذا الكم الهائل من الأسلحة الثقيلة والذخائر المتنوعة.
قد يكون الانهيار السريع للجيش الافغاني جاء مخالفاً للتوقعات، وهو ما جعل الاخراج الذي أحاط بعملية الاجلاء سيئاً الى حد بعيد. لكن الجوانب الباقية كانت متوقعة سلفاً، كي لا نقول مطلوبة. وليس من المبالغة القول ان مرحلة ما بعد الانسحاب ستفتح ابواب جهنم ولمرحلة طويلة. ستنشغل الدول المحيطة بأفغانستان بالحرائق المتتالية التي ستتسبب بها التيارات المتطرفة، والتي ستستعيد نشاطها انطلاقاً من الحضن الافغاني. باب الخطر هو طريقة احتواء هذه الموجة الجديدة من التطرف والارهاب، والتي ستحاول التمدد في اتجاه الدول المجاورة.
الرئيس السابق للموساد الاسرائيلي يوسي كوهين ذكر في مقال له نشرته صحيفة «يديعوت احرونوت» أن انسحاباً اميركياً متسرعاً وغير مدروس من العراق يمكن ان يؤدي بدوره الى فوضى شاملة ما قد يؤدي الى انهيار اجزاء مركزية في الشرق الاوسط الهَش اصلاً، وأبدى تخوفه من تزايد نفوذ ايران. لكن ما لم يقله كوهين هو احتمال استعادة «داعش» حضورها في العراق، ما سيؤدي لاحقاً الى تمدد اعمال هذا التنظيم في سوريا وطبعاً لبنان.
من هذه الزاوية كان لا بد من اعادة النظر في الحسابات التي كانت قائمة في المرحلة السابقة. البعض ذهب الى مرحلة ما بين عامي 2014 و 2016 في لبنان، يومها اندفع تنظيم «داعش» الى جانب «النصرة» في مشروع استهداف الساحة اللبنانية. والحسابات يومها فرضت تقاطعاً ما بين الولايات المتحدة الاميركية واوروبا من جهة و»حزب الله» من جهة ثانية. صحيح أنه لم يحصل تنسيق مباشر بين الطرفين، لكن الجيش اللبناني شكّل ما يشبه نقطة التلاقي وادارة التوازنات وفق ما تطلبته المرحلة، اضافة الى جهاز الامن العام. قد لا تكون الساحة اللبنانية امام احتمال استعادة تلك المرحلة الصعبة بنحوٍ مطابق وكامل، لكن تداعيات «الانفجار» الافغاني قد تلفح الساحة اللبنانية التي تعيش انهيارات اقتصادية متلاحقة ومصاعب حياتية وارتفاع نسبة الفقراء والمعوزين بمقدار كبير وسط تفلت اجتماعي وفوضى متنقلة، والأهم ازدياد مستوى النزاع السياسي وتداعي هيكل الدولة. كل ذلك يشكل عامل اغراء كبير لنمو سريع للخلايا الارهابية بعدما اعطى «انتصار» حركة «طالبان» دفعاً معنوياً كبيراً لهذه التنظيمات.
وعلى قاعدة «رب ضارة نافعة»، فُتحت الطريق امام ولادة الحكومة بعد تقاطع خارجي بضرورة استباق تداعيات افغانستان. ومنذ اكثر من عشرة ايام بَدت المناخات الخارجية على اختلاف تلاوينها متفقة على ضرورة انجاز الولادة الحكومية كمدخل الزامي للتخفيف اولاً من حدة النزاع السياسي الذي يدور حولها، وثانياً للبدء بالعمل جدياً وفعلياً على وقف الانهيارات الاقتصادية والمالية الحاصلة والعمل على البدء بوضع أسس ورشة اعادة البناء. يومها تحركت المبادرات دفعة واحدة، مع تراجع الضجيج السياسي والاعلامي.
الباخرة الايرانية المستقدمة الى لبنان لم تحدث الضجيج الذي كان متوقعاً، والدعوة لكسر مفاعيل «قانون قيصر» تحت عنوان انقاذ كهرباء لبنان جاءت من السفيرة الاميركية نفسها. يومها ايضاً بدأت فعلياً وجدياً مشاورات تأليف الحكومة، قبل ذلك كانت المناورات من جميع الاطراف هي اللغة السائدة بدليل ان الاسماء التي كان يجري رميها في الاعلام سابقاً اختفت فجأة لتحل مكانها اسماء جديدة وجدية. والأهم ان العقد الجدية الثلاث التي كانت تعوق الولادة الحكومية جرى حلها بسحر ساحر.
العقدة الاولى تتعلق بـ»الثلث المعطل»، حيث تم التفاهم النهائي على ان هذا الثلث لن يحظى به اي طرف لوحده. وبالنسبة لفريق رئيس الجمهورية جرى التفاهم على تسمية ستة وزراء زائدا الوزير الدرزي المحسوب على طلال ارسلان، والوزير الارمني من حصة الطاشناق، وهو ما يعطي رئيس الجمهورية حصة من ثمانية وزراء.
والعقدة الثانية كانت تتعلق بحقيبتي وزارتي الداخلية والعدل، وجرى التفاهم على ان يختار الرئيس نجيب ميقاتي اسمين من لائحة من اربع او خمس اسماء يرفعها رئيس الجمهورية لحقيبة العدل، والعكس صحيح بالنسبة لحقيبة الداخلية.
اما العقدة الاساسية الثالثة والتي تتجه الى حل وسطي ايضاً فتتعلق بطلب ميقاتي ان تكون له حق تسمية واحدة من الحقائب الاساسية الاربع، وهي: الطاقة، الشؤون الاجتماعية، المال والاقتصاد.
في الواقع إن ميقاتي يصوّب فعلياً على حقيبة الاقتصاد نظراً للدور الاساسي الذي ستضطلع به مستقبلاً الى جانب الحقائب الثلاث الاخرى في اطار مرحلة اعادة بناء الدولة. والتفاهم الذي سيحصل هنا، هو بإعطاء حق التسمية لميقاتي على هذه الحقيبة حتى ولو بقيت خارج الحصة السنية.
ومع زوال هذه العقد الاساسية الثلاث فُتحت الطريق امام الولادة الحكومية في انتظار تذليل مشكلات لا تعتبر اساسية او تستأهِل اعاقة الولادة الحكومية. فعلى سبيل المثال هنالك مسألة اعطاء وزيرين مارونيين لسليمان فرنجية او وزير ماروني وآخر كاثوليكي. وهذا الاجراء سينعكس بدوره على مذهب وزير العدل الذي لم يُحسم بعد ما اذا سيكون مارونياً او كاثوليكياً.
في اختصار، انتفت العوائق السياسية الكبرى امام ولادة الحكومة، وما تبقّى جاء في اطار مشكلات التأليف العادية والمعروفة، والتي لا يجب ان يطول حلها او ان يدفع الى إعادة خربطة كل شيء.
وبدءاً من هذا الشهر ستنطلق الادارة الاميركية في اتجاه فتح الملف اللبناني لإيجاد ترتيب له. وستتصاعد الاصوات مرة من الداخل الاميركي ومرات اخرى من جانب «حزب الله» وحلفائه. لكن هذه الجلبة قد يكون الهدف منها تشكيل ستار دخاني كثيف لتأمين التفاهمات المطلوبة.
فعلينا أن لا ننسى ملف الحدود البحرية والحدود البرية الجنوبية، وسط كلام عن ان النتيجة ستأتي متوّجة بإعلان اسرائيل انسحابها من مزارع شبعا على ان تدخل اليها قوات «الاندوف» العاملة في الجولان وتصبح تحت سيطرتها. هو ترتيب ستشارك فيه لاحقاً الامم المتحدة، وقد يأخذ وقته كون التفاهمات السياسية المتشعبة يجب ان تسبق المشاورات التقنية مع الامم المتحدة.
وخلال الفترة الماضية دققت سفيرة غربية في امكانية اجراء انتخابات رئاسية مبكرة تسبق الانتخابات النيابية المقررة في ايار المقبل.
وجرى استعادة سابقة انتخاب الرئيس الراحل الياس سركيس في العام 1976 قبل ستة اشهر من تسلمه مقاليد السلطة. لكنه جرى لاحقاً وضع الفكرة جانباً لأن الانتخابات المبكرة ستعني إقصاء موظفين كباراً في الدولة اللبنانية عن لائحة المرشحين، لأن لا مخارج قانونية تسمح بذلك. فتم وضع الاقتراع جانباً مع تسجيل احتمال ان تتولى حكومة ميقاتي بعد تشكيلها مهمة رعاية مرحلة الفراغ الرئاسي ومواكبتها، لأنه سيكون من الصعب جداً تشكيل حكومة جديدة بعد حصول الانتخابات النيابية المقبلة.
لكن في انتظار ذلك وبسبب المرحلة الامنية الخطرة التي دخلتها للتو منطقة الشرق الاوسط، فإن تقاطعات سياسية جديدة ستحصل، مختلفة عن تلك القائمة حالياً، مع اعطاء مساحة أوسع للجيش اللبناني والاجهزة الامنية لضمان ضبط الامن وكساحَة تلاقٍ وتفاهم للجميع.