قرار الإنسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، الذي تمّ تنفيذه منذ أيام، كان حدثاً مهماً ما زالت ارتداداته تتفاعل في مختلف أنحاء العالم. ومع أنّ هذا القرار لم يكن مفاجئًا، إذ تمّ الإتفاق عليه منذ شباط 2020 بين إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب وقيادة حركة «طالبان»، في لقاء عُقد بين الفريقين في قطر، وكان هذا الإتفاق يقضي بالإنسحاب الأميركي في الأول من أيار 2021، إلّا أنّ الرئيس جو بايدن، بعد تسلّمه الرئاسة، أجّل تنفيذ الإنسحاب حتى آب الجاري.
فالمشكلة إذاً ليست في مضمون قرار الإنسحاب، وإنما في طريقة تنفيذه التي سبّبت بلبلة وتخبطاً ولوماً لبايدن، خصوصاً بعدما قرّر إعادة إرسال 6 آلاف جندي أميركي الى أفغانستان بعد الإنسحاب بيومين، لحماية مطار كابول، وتأمين سلامة إجلاء الديبلوماسيين والمواطنين الأميركيين وغيرهم من الرعايا الغربيين الذين يرغبون بمغادرة البلاد. والمشاهد المريبة للأفغانيين في محيط المطار وفي المدارج، وتعلقّهم في الطائرات المغادرة، دلالة واضحة على سوء التنظيم الذي رافق هذا الإنسحاب، الذي كانت له تداعيات كثيرة، ليس فقط في الولايات المتحدة وأفغانستان، بل أيضاً في مناطق كثيرة من العالم.
أولاً: في الولايات المتحدة
تعرّض بايدن لانتقادات كثيرة، وأحياناً لاذعة، ليس فقط من خصومه في الحزب الجمهوري، ولكن أيضاً من أعضاء في الحزب الديموقراطي ومؤيّدين له. وقد أشارت بعض الإستطلاعات، الى هبوط في شعبيته، خصوصاً أنّه كان، في حملته الإنتخابية، يركّز على خبرته الطويلة في القضايا الدولية، إذ كان عضواً في الكونغرس لعشرات السنين، ورئيساً للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، ونائباً لمدة 8 سنوات للرئيس باراك أوباما، الذي كلّفه معالجة ملفات دولية معقّدة مع روسيا والصين والملف النووي الإيراني وأفغانستان بالذات وغيرها. ومن منطلق هذا التخبّط في الموضوع الأفغاني، فإنّ قرارات بايدن المقبلة في شتى المواضيع ستكون عرضة للشك والتساؤل، وسيتمّ تذكيره وتذكير الرأي العام بما حصل عند الإنسحاب من أفغانستان في شتى المناسبات. هذا مع العلم، أنّ الإنسحاب ما زال لم يُنجز كلياً بعد، وفي حال حصول اعتداءات على مواطنين أميركيين في أفغانستان، أو عدم التمكن من إجلائهم جميعاً، فلا شك أنّ أصابع اللوم سُتوجّه الى بايدن وستشوّه صورة حكمه.
عند حديثه عن قرار الإنسحاب الشهر الماضي، سُئل بايدن إن كان في استطاعة "طالبان" السيطرة على البلاد، فنفى إمكانية حصول ذلك بصورة قاطعة. وفي ذلك دلالة الى وجود نقص أو أخطاء جسيمة في الإستخبارات على الأرض، ولذلك ينبغي إجراء التحقيقات اللازمة مع المسؤولين عن هذا الفشل الإستخباري ومعاقبتهم.
من المفيد التذكير هنا، أنّ الولايات المتحدة أنفقت في أفغانستان نحو تريليون دولار في خلال 20 عاماً، كما أنّها خسرت 2448 جندياً، ما عدا الآلاف الذين جُرحوا في المعارك أو في الألغام، ويبدو أنّ كل هذه الخسارة ذهبت هباء، وخصوم بايدن يتهمونه بالإسراع في الإنسحاب قبل تحقيق أي هدف يُذكر، وهم سيشكّكون بقدرته على اتخاذ قرارات مناسبة.
ثانياً: في أفغانستان
إنّ أولى تداعيات قرار الإنسحاب الأميركي، وحتى قبل إنجازه، كان السيطرة المفاجئة لحركة "طالبان" على كل البلاد (باستثناء محيط مطار العاصمة كابول طبعاً)، مع ما سيرافق ذلك من تغيّرات جوهرية في طريقة الحياة، خصوصاً في ما يتعلق بالمرأة وحقوقها. إذ من المرجح جداً أن تعود أفغانستان الى ما كانت عليه أثناء حكم "طالبان" قبل الغزو الأميركي عام 2001، وقد أعلن أحد قادة الحركة، أنّ البلاد ستُحكم بحسب الشريعة الإسلامية، وذلك يدل الى أنّه لن يحصل تغيير عن الماضي، لأنّ الشريعة الإسلامية، كما يعرف الجميع، لم تتغيّر بطبيعة الحال.
كذلك بات هناك أسلحة أميركية متطورة في تصرف "طالبان" حصلت عليها من الجيش الأفغاني، الذي لم يُظهر أي رغبة قتالية في هذه الظروف، وقد سبق للولايات المتحدة أن زودت هذا الجيش الأسلحة الحديثة والتدريب اللازم لاستعمالها، هذا بالإضافة الى أنّ أعداداً كبيرة من عناصر الجيش انضمت الى الحركة التي أصبح في حوزتها الأسلحة الأميركية والعناصر القادرة على استعمالها.
وقد نشر بعض وسائل الإعلام الأميركية، أنّ استطلاعاً للرأي كان حصل في أفغانستان في العام 2019، دلّ الى أنّ 85% من الشعب الأفغاني لا يؤيّد حركة "طالبان"، إلّا أنّ أحداث الأيام الماضية وعدم مقاومة الجيش لتقدّم الحركة في معظم المناطق بما فيها العاصمة كابول، يدلان الى عكس ذلك تماماً.
ثالثاً: في روسيا والصين وإيران
هذه الدول الثلاث لها اهتمام خاص بما يجري في أفغانستان، وقد يكون بايدن وجد، في تسلّم حركة "طالبان" السلطة في هذا البلد بعد انسحاب الجيش الأميركي، فرصة لخلق مشكلات لكل من هذه الدول التي تتميّز علاقاتها مع واشنطن بسلبية واضحة:
فالصين لديها مشروع "الطريق والحزام"، وهو نسخة حديثة عن "طريق الحرير" التاريخي، ويمرّ طبعاً بأفغانستان. وقد يكون بايدن، بانسحابه الإضطراري من أفغانستان بعد كل الخسائر التي تكبّدتها بلاده دون تحقيق أية نتيجة على الأرض، قد وجد في الإنسحاب وفي تسلّم "طالبان" مقدرات أفغانستان، فرصة لعرقلة هذا المشروع الذي تعلّق عليه الصين أهمية كبرى، إذ أنّه ربما يتوقع تقارباً بين حركة "طالبان" السنّية المتشدّدة وجماعات الأويغور السنّية، على الحدود الغربية للصين، الذين يطالبون باستقلال ذاتي لمنطقتهم، وتقوم الصين بقمعهم بالقوة العسكرية.
حاولت الصين تجنّب حصول مثل هذا التقارب عبر اعترافها السريع بحكم "طالبان" في أفغانستان، وعبر لقاء وزير الخارجية الصيني مع القائد الأعلى لحركة "طالبان"، وعبر تصريحات إيجابية على لسان كبار المسؤولين الكبار فيها عن التطورات الحاصلة في هذا البلد، إنما "المستقبل" القريب سيُظهر موقف "طالبان" من علاقتها مع الصين، وما إذا كان بايدن مصيباً بتقديراته لهذا الموضوع.
وبالنسبة الى روسيا، قد يكون بايدن يعتقد أيضاً أنّ حركة "طالبان" ستقيم علاقات جيدة مع الحركات الإسلامية في جمهوريات الإتحاد الروسي المناهضة لحكم الرئيس فلاديمير بوتين، ما يشكّل صعوبات لخصمه الروسي على خلفية العلاقات السيئة القائمة حالياً بين روسيا والولايات المتحدة. ولكن توقعات بايدن قد لا تصح، لأنّ روسيا تقيم اتصالات دائمة مع "طالبان"، وقد أعلنت أنّ سفارتها ستبقى مفتوحة في كابول، وبوتين يسعى الى تعزيز علاقات بلاده مع أفغانستان تحت حكم "طالبان".
أما في ما يتعلق بإيران، فإنّ كون "طالبان" من الحركات السنّية المتشددة، مع ما لها من تاريخ من التنكيل بأبناء الطائفة الشيعية في أفغانستان أثناء حكمها السابق للبلاد، فإنّ الرئيس الأميركي يرى في تسلّم "طالبان" السلطة مجدداً فرصة لإزعاج إيران، وإشغالها بأوضاع ربما عدائية على حدودها الشرقية، ما قد يضطرها الى تليين موقفها في مفاوضاتها غير المباشرة مع الولايات المتحدة في فيينا لإعادة إحياء الإتفاقية النووية، خصوصاً بعد تسلّم إدارة جديدة في طهران، معروف عنها أنّها أكثر تشدّداً من الإدارة السابقة.
رابعاً: في الشرق الأوسط وفي لبنان بالذات
حلفاء أميركا في الشرق الأوسط وفي الخليج، لم يعلنوا بعد أي موقف واضح من تطورات الأوضاع في أفغانستان في ظلّ الإنسحاب الأميركي، باستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة، التي لجأ اليها الرئيس الأفغاني المخلوع أشرف غني، علماً أنّ البحرين، بصفتها الرئيس الحالي لمجلس التعاون الخليجي، ستقوم بالتشاور مع سائر أعضاء المجلس، لمحاولة اتخاذ موقف موحّد من الموضوع. وواضح أنّ تركيا تسعى الى لعب دور ما في أفغانستان لملء الفراغ الناجم عن الإنسحاب الأميركي، كون الرئيس رجب طيب إردوغان، لا يترك فرصة إلّا ويحاول إظهار أهمية تركيا كقوة إقليمية، خصوصاً أنّها دولة سنّية مثل أفغانستان، وقد كانت تركيا ستتولّى حماية مطار كابول، ما كان سيعطيها دوراً في البلاد، إلّا أنّ التطورات الناجمة عن سيطرة "طالبان" على كل الاراضي الأفغانية، اضطرت الولايات المتحدة الى ارسال آلاف الجنود لحماية الديبلوماسيين والرعايا الذين سيتمّ ترحيلهم عبر المطار، هذا مع العلم أنّ "طالبان" لا تثق كثيراً بالتدخّل التركي، كون تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما أنّ هذه الحركة كانت ترفض حتى مجرد وجود الجنود الأتراك في مطار كابول، فمن الصعب أن تعطي الآن أي دور لتركيا للسبب نفسه.
أما في ما يتعلق بلبنان، فلم تُرصد حتى الآن أي تحركات ملموسة على الأرض نتيجة سيطرة "طالبان" على أفعانستان، باستثناء بعض التعبير عن الترحيب بهذه التطورات لدى عدد من الإسلاميين في شمال لبنان، هذا مع العلم أنّ الأزمات المختلفة التي يعاني منها لبنان في الوقت الحاضر، والصعوبات الكبرى في الحياة اليومية التي يواجهها الشعب اللبناني، تجعل هذا البلد أرضاً خصبة للتدخّلات الخارجية، وخصوصاً في حال عادت "طالبان" الى كونها ملجأ للحركات الإسلامية المتطرفة والإرهابية مثل "القاعدة"، أو إذا قرّرت أن تتحالف مع مجموعات ومنظمات إرهابية مثل تنظيم "داعش". من هذا المنطلق، يخشى بعض اللبنانيين أن يتمّ تصدير الثورة الأفغانية في اتجاه لبنان، على غرار ما حصل في ثمانينات القرن الماضي، عندما تمّ تصدير الثورة الإيرانية، أو ما حصل في مخيم نهر البارد، أو إبّان الحرب السورية.
يبقى أنّ حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفي كافة انحاء العالم، منزعجون انزعاجاً كبيراً من الهزيمة التي لحقت بحليفهم الأميركي في أفغانستان، في الوقت الذي نرى أعداء الولايات المتحدة وخصومها لا يخفون شماتتهم وفرحهم بما لحق بهذه الدولة من تراجع ملموس على الصعيد الدولي. وقد بدأت الشكوك تظهر حول قدرة الولايات المتحدة على القيام بدور قيادي لدى وقوع أزمات كبرى في العالم مستقبلاً، علماً أنّ هذا الدور القيادي لأميركا بدأ يتلاشى أيام الرئيس السابق دونالد ترامب، وقد جاءت الهزيمة في أفغانستان في عهد جو بايدن، لتُظهر عدم قدرة الولايات المتحدة على تحقيق انتصارات عسكرية لدى تدخّلها في دول أخرى.
إنّ بايدن ما زال في بداية عهده، وعليه أن يحقق نجاحات ملموسة في إدارته للبلاد، سواء على الصعيد الداخلي، أو على الصعيد الخارجي، لكي يستعيد بعض التأييد الذي خسره من جراء التطورات في أفغانستان. وقد تكون معالجته لجائحة كورونا التي تجدّدت مع متحور "دلتا"، أو ربما معالجته لمسألة الهجرة غير الشرعية المتدفقة عبر الحدود مع المكسيك، والتي بلغت أرقاماً قياسية في عهده، أو أيضاً المساعدة والدعم اللذان يقدّمهما لدولة هايتي على إثر الزلزال الكبير الذي ضربها والفيضانات التي تلته وأدّت إلى خسائر كبرى في الأرواح والبنى التحتية، في هذه الدولة التي ربما تُعتبر أفقر دولة في العالم، قد يكون لبايدن في أي من هذه الحالات فرصة لاستعادة التأييد الذي يحتاج اليه لنجاح عهده الرئاسي.