وضعت الحكومة الجديدة بكامل مقوماتها، تركيبتها ومواصفات وزرائها تحت المجهر الدولي. فهو ينتظرها منذ أكثر من سنة، وسط مخاوف من تجاهل المعنيين بالطبخة لكل التحذيرات والملاحظات الدولية. فلم يصدقهم أحد أنّهم التزموا خريطة الطريق التي تستعيد الثقة الداخلية والخارجية، وبعض الاسماء يشي بذلك. فهل ستولد تشكيلة تخرج عن معايير المجتمع الدولي لتُبقي الحصار على لبنان؟
من بين النظريات السياسية التي تنامت في الأيام القليلة الماضية لقراءة خلفيات مسلسل المآزق المتناسلة التي يعيشها اللبنانيون منذ اشهر عدة، واحدة تتحدث عن الأسوأ مما نعيشه اليوم، من دون القدرة على استشرافها، وتقدير ما ستكون عليه في شكلها ومضمونها والظروف التي تتحكّم بها. فما يعيشه اللبنانيون اليوم لم يعرف جيل سابق مثيلاً له منذ ما قبل الاستقلال، بمختلف المحطات التاريخية التي عبرتها المنطقة ولبنان. والأمر ليس من الصعب التعرف عليه بوجود من لا يزال على قيد الحياة، يستذكر الكثير من المراحل الصعبة التي تجاوزها اللبنانيون في ما بعد.
وعند السعي الى تقدير ما هو منتظر، يقول العارفون المتخوفون مما هو مدبّر وآتٍ، انّه وإن بقي التعاطي مع ما يجري من أحداث ومآسٍ ونكبات متتالية، بالشكل الذي عبّرت عنه استقالة المسؤولين الحكوميين والاداريين ورجال المال في مواقع عديدة عن مسؤولياتهم، وأضافوا عجزاً متمادياً على أكثر من صعيد؟ وإن أوكلوا المهمة الى الجيش وقادة الاجهزة العسكرية والأمنية بإشراف المجلس الاعلى للدفاع، لمواجهة كل ما يجري، فإنّ فيه الكثير مما يعبّر عن المخاوف المقبلة.
فقد أثبتت الأحداث، الحاجة الماسّة والملحّة لتغطية فشل السلطتين التنفيذية والتشريعية في إدارة شؤون البلاد والعباد على مختلف المستويات، وهو ما ينذر بما هو أسوأ. فكل التوقعات تتحدث عمّا هو أخطر وأسوأ مما نشهد منه فصولاً في مختلف أوجه حياة اللبنانيين. والشكوك تتعزز يومياً من ان تكون ترددات ما هو مرتقب اقسى وأدهى مما يتوقعه احد. وإن كانت عملية تشكيل الحكومة بنظر البعض إحدى وسائل لجم هذا التدهور، فإنّ ذلك يفترض على اهل الحكم والحكومة ان يتفهمّوا ما هو مطلوب لفتح صفحة جديWدة، واللجوء الى سيناريوهات وقواعد جديدة عليهم سلوكها في اكثر من اتجاه، لا يبدو انّ أياً منهم مستعد للقيام بها، بالنظر الى ما هو مطلوب من تنازلات لا ينوي أحد من الممسكين بمفاتيح الحلول المؤجّلة والصعبة المبادرة الى اتخاذها. ولم يوحِ احد منهم الى اليوم انّه يتفهم الحاجة الماسة الى تغييرات جذرية مطلوبة على اكثر من مستوى اقتصادي واجتماعي، وقبلهما في المجالات السياسية والديبلوماسية، وهي مهمة صعبة للغاية، وليس من المتوقع ان تتمكن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي من الإقدام عليها، في ظل ما يحيط بعملية تركيبها من مساومات ومحاصصات، أبعدت التشكيلة المطلوبة عن المواصفات التي تحدثت عنها المبادرة الفرنسية والأطراف الاممية والدولية التي واكبتها، من اجل الخروج من الأنفاق المظلمة، الى طريق قد يؤدي الى التعافي والإنقاذ ولو بعد حين.
فالجميع يدرك انّ التركيبة الحكومية المنتظرة محكومة سلفاً بالتوازنات التي لن تسمح لرئيس الحكومة وحده بإدارة المرحلة المقبلة، ما لم يغيّر اهل الحكم اسلوبهم في التعاطي مع أزمات الداخل والخارج، وكيفية معالجتها بالتوفيق المطلوب بدقة متناهية، بين ما هو مطلوب لمدّ يد المساعدة للبنان العاجز عن تأمين لقمة عيش أبنائه والمقيمين على ارضه. فهم من أوصلوا البلد الى مرحلة افتقد فيها اللبنانيون والمقيمون الى لقمة الخبر والبنزين والمازوت والغاز والدواء وأبسط الخدمات العامة، من العتمة التي قاربت ان تكون شاملة، في وقت باتت فيه شبكة الاتصالات والانترنت تترنح على وقع غياب الخدمات الطبية والاستشفائية والمخاطر التي تهدّدها، ومعها القطاع المصرفي الذي لم يعد يعترف بحقوق المودعين وجنى العمر، بعدما نقل أصحاب المصارف وشركاؤهم اموالهم ومدخراتهم الى الخارج، وسعيهم الى التبرؤ من تقاسم الخسائر وتحمّل مسؤولية ما جنته سياساتهم واستراتيجياتهم التي بُنيت على الطمع بالفوائد التي جنتها مصارفهم.
ولمواجهة كل هذه السيناريوهات المتوقعة والتي لا يخضع الكثير منها لأي نقاش موضوعي، بعدما نضحت بصدقيتها وعفويتها، لا يمكن ان يغيب عن بال أصحاب القدرات العقلية والسياسية ما هو مطلوب لإخراج البلاد مما هي فيه. فمفهوم الحل المنشود له قواعده، وانّ على من سيقودون المرحلة المقبلة اتخاذ سلسلة خطوات لا بدّ منها. فما هو ثابت، انّ لبنان لا يمكنه تحمّل أعباء تردّدات أزمات المنطقة، إن اصرّ اللبنانيون على إبقاء ساحته ملحقة بما يجري في سوريا والعراق واليمن وربما في افغانستان، وبكل اشكال وتردّدات الصراع المفتوح بين طهران والرياض وواشنطن، فيستحضرون التجارب التي تعيشها هذه البلدان لترجمتها في لبنان، وتسجيلها على لائحة انتصاراتهم بإسم محاورهم، فيما هم يقودون البلاد يوماً بعد آخر من أزمة الى اخرى، اشدّ خطورة على حياة وصحة ومستقبل المواطنين، من دون أن يرف لهم جفن، في ظل وعود عرقوبية بإخراج البلاد مما هي فيه، فيما هم يحفرون عميقاً في استيلاد الأزمات اليومية.
لم تكن هذه المعطيات بعيدة عمّا يدور في كواليس الحياة السياسية والديبلوماسية، وإن ظهر الحراك الاميركي الى سطح الأحداث في الأيام القليلة الماضية، فإنّ ما سبق اللقاءات العلنية لها ونظرائهم من دول عدة، لم تهدأ، بهدف النصح وإعادة النظر ببعض الاساليب التي تخرج التركيبة الحكومية عن المسار المطلوب دولياً. ولفتت المصادر العليمة، انّ ما هو مطلوب ردّ عليه الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله ليل اول من امس، باعتباره «انّ الأزمة التي نعيشها هي جزء من حرب اقتصادية لإخضاع الشعب اللبناني والمقاومة»، وهو ما أصاب جانباً كبيراً مما هدفت إليه هذه العقوبات والحصار المالي الذي قاد الى حصار ديبلوماسي وضع لبنان على لائحة الدول المهملة من قِبل دول الخليج، طالما انّه في المحور المعادي لها. كما هي نفسها التي حصرت المساعدات الدولية بالجوانب الإنسانية الناجمة عن جائحة الكورونا وتفجير مرفأ بيروت، وهو ما قاد الى فهم أركان السلطة انّهم بسياساتهم وخروجهم على قواعد النأي بالنفس، يستدرجون الحصار الدولي، وأنّ ما جرى لا يشكّل فكاً للعقوبات التي وضعت لبنان على لائحة المعاقبين مثل سوريا وايران وغيرهما من الدول والكيانات والأشخاص الذين طالتهم العقوبات الاميركية، وتلك التي يستعد الاتحاد الأوروبي لفرضها.
وانتهت المصادر، ومن دون التوغل في الكثير مما هو مطروح، لتشيد بصراحة السيد نصرالله وتفرّده بها، لتتهم الآخرين بالتهرّب من الحقيقة ودفن الرؤوس في الرمال، وهي السياسة التي خاضها اهل الحكم، رغم عجزهم عن اي شكل من أشكال المواجهة، ومعهم مواقع أخرى، يستخفون بالمخاطر التي تنقاد إليها البلاد في ظلّ انعدام مظاهر ومقومات الدولة، ليتحدثون عن حرب كونية يخوضونها بأسلحة انتحارية. فلماذا لا يستثمرون في صراحة نصرالله وصدقيته لترجمة الحلول المطلوبة والسعي اليها؟.