كان الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب، ومن باب التهكّم يسأل: اذا اتصلتُ وطلبتُ التحدّث الى الاتحاد الاوروبي، من يجيبني؟ وكان بسؤاله يريد تسليط الضوء على انّه لا وجود لوضعية حقيقية (Status) لهذا الاتحاد. السؤال نفسه تستطيع ان تطرحه الدول الراغبة في الاتصال بالدولة اللبنانية، من سيجيب؟
أصبح واضحاً انّ الأخطر والأبشع والأقسى من الكارثة المالية والاقتصادية والحياتية التي وصل اليها اللبنانيون، هو غياب أي نوع من أنواع الادارة للأزمة. وقد تقلّصت طموحات الناس اليوم، ولم يعد المطلوب معالجة الفاجعة بل فقط ادارتها لتخفيف المآسي. واذا كان نجاح أي خطة إنقاذ مالي يستند الى مبدأ العدالة في توزيع الخسائر، فإنّ تحاشي الانفجار الاجتماعي، والانهيار الكامل يستند الى مبدأ العدالة في توزيع الاضرار. هذا التوزيع لا يمكن ان يتمّ سوى من خلال خلية أزمة تدير الكارثة بانتظار الفرج.
المطلوب اليوم، جهة مسؤولة تتولّى اتخاذ القرار في كيفية ادارة الوضع المالي بانتظار موعد الخطة الإنقاذية، والتي لا يبدو انّها ستبدأ قبل الانتخابات النيابية المقبلة، بما يعني انّ امامنا عام كامل تقريباً ينبغي ان نجتازه بأقل أضرار ممكنة.
هذا الغياب التام لأي نوع من انواع الإدارة للأزمة، يفسّر ما جرى في ملف رفع الدعم عن المحروقات. وبرغم انّ رفع الدعم مطلوب، وقد تبيّن انّ القسم الاكبر من الاموال يسرقها المهرّبون، لأهداف تجارية كانت أو سياسية، لكن ذلك لا يمنع انّ وقف الدعم اليوم من دون إجراءات رديفة تواكبه، سيشكّل كارثة اجتماعية لا قدرة للعائلات على تحمّلها. وبالتالي، لا بدّ من إجراءات مواكبة تأخذ في الاعتبار ما يلي:
اولاً- ايجاد طريقة لتأمين الكهرباء للمواطن بكلفة منطقية قادرٌ على تحمّلها. وهناك مجموعة افكار مطروحة، سواء على مستوى كهرباء المولّد، او بالنسبة الى مؤسسة كهرباء لبنان، التي تؤكّد انّها قادرة على زيادة ساعات التغذية بواقع الضعفين في حال تأمّن الفيول. وهذا الامر يستتبع زيادة التعرفة، لخفض حجم خسائر المؤسسة.
ثانياً- تأمين نقليات مخفّضة لموظفي القطاع العام والخاص من خلال، زيادة بدل النقل اليومي، أو خلق نظام بطاقة تُوزّع على السيارات بواقع صفيحتين في الشهر للسيارة، بما يعني تأمين تمويل الخطوة بحوالى 300 مليون دولار سنوياً.
ثالثاً- تعويض مالي لتحسين القدرة الشرائية للمواطن من خلال البطاقة التمويلية التي ينبغي ان تسدّ قسماً كبيراً من ارتفاع اسعار كل السلع ربطاً بارتفاع اسعار المحروقات بواقع اربعة أضعاف تقريباً (400%). وتشير التقديرات الى انّ السلة الاستهلاكية قد ترتفع بين 30 و40%، وهي نسبة لا قدرة للبناني على تحمّلها.
إلى جانب هذه الاجراءات المطلوبة، ينبغي حسم ملفات حيوية اخرى ترتبط بالقطاع الصحي، وتأمين حدٍ معين من الادوية، وضمان وصول الرغيف الى المواطن. كل هذه الإجراءات لا تحتاج الى اجتراح العجائب بل الى هيئة مسؤولة لديها سلطة التقرير والتنفيذ.
إذا نجحت مساعي تشكيل الحكومة ينبغي ان تتحول الحكومة نفسها الى خلية أزمة، وان تتحمّل مسؤولياتها في ادارة الوضع لمنع الانفجار الاجتماعي. واذا لم تنجح المساعي، لا شيء يمنع تشكيل خلية أزمة مكوّنة من وزراء في حكومة تصريف الاعمال، قضاة، أمنيين واقتصاديين... لأنّ ما يجري أخطر من أن نهمل مواجهته بذريعة أنّ الدستور لا يسمح، والاصول لا تتيح...
البلد اليوم، ورغم مأساته يمتلك حوالى 31 مليار دولار غبّ الطلب. وهذا احتياطي ليس للتبذير كما حصل حتى اليوم في الدعم، بل انّه في خدمة منع زوال وطن، بانتظار الإنقاذ. وهذا مضمون الرسالة التي حاول حاكم المركزي ايصالها الى من يعنيهم الامر: الاموال الموجودة في المركزي، الدولارات والسبائك الذهبية، مقدّسة ولا يمكن هدرها على السماسرة والمهرّبين وأصحاب الغايات السياسية الكبرى. تستطيعون تشريع قانون لتأميم الاموال واستخدامها بالقوة، لكن اعلموا انّ المركزي انفق 850 مليون دولار في فترة قصيرة لدعم البنزين والمازوت، ليتبيّن له انّ المواطن محروم من البنزين والمازوت. فهل هذا هو مفهومكم للاستمرار في الدعم؟
البلد يواجه أزمة تفكير.لا أحد يفكر، بل هناك فقط من يقرّر من دون ان يفكّر، والنتيجة نلمسها كل يوم، وآخرها في بلدة التليل في عكار، والحبل على الجرار.