ان مبرر وجود الدولة هو الخدمات التي تقدمها لشعبها، واذا انتفى تقديم الخدمات انتفى مبرر وجودها. وغياب الدولة وحضورها "ظاهرة" تتكررفي لبنان ميزت الانتظام الاجتماعي فيه خلال العهود الاخيرة ، واستطاع اللبنانيون التكيف معها بشطارة رافقتهم في حلهم وترحالهم وصارت جزءاً من ثقافتهم، تماهوا بها والغوا المسافة بينهم وبينها، وبدت كأنها من ميزاتهم، وبنوا على هذه الازدواجية التى روجوها وراجت عنهم الكثير من الحقائق والاوهام وبات الكثيرمنهم مقتنعا بها كحقيقة تتمظهر حينا كنرجسية مقنعة، واحيانا مسكنة ظاهرة.هذا السلوك لم يقتصرعلى الاماكن التي حلوا بها في هجراتهم الدائمة اوالمؤقتة، بل كان امتيازاً خاصاً لهم فيما مضى، واليوم صار وبالاً عاماً، وتصرفاً شاذاً جر عليهم الويلات والنكبات.
حقق القطاع الخاص من هذا التعميم الشائع والملتبس، في عهود ما بعد الاستقلال نجاحات مهمة في مجالات عدة، تعليم، صحة، مال، سياحة، حيث تعتبراليوم اساسية في "اقتصاد المعرفة" معتمداً على المبادرة الفردية، والجهود الذاتية، هذا النجاح رفع من مؤشرالتنمية ليسجل تقدما بارزاً تجاوز مؤشرات الدول النامية، انعكس ذلك في مستوى ونوعية حياة الناسسابقا وفقاً لثلاث مؤشرات رئيسية معتمدة من منظمات عالمية: متوسط دخل الفرد، نسبة الامية،ومتوسط العمر.
بالمقابل اخفق القطاع العام في تحقيق تنمية اقتصادية وبشرية بمستوى ما حققه القطاع الخاص، لأنه ُأُصِيب بورم نشأ في بعض الادارات،وتخلف عن مجاراة القطاع الخاص، واستفحل مع سيطرة القوى الطائفية، وتحول الى ورم خبيث انتشرفي معظم اجهزة الدولة، باتت معه الوظيفة العامة مأوى لبعض المحظين، وملجأ لبعض العاطلين والمتملقين، ومدخل للمنفعة الخاصة والمناهبة عبر"مجالس" أنشأتها الطوائف، والتهمتها متسترة بعفة ألهمتها فجورها وهي متقمصة رداء تقواها، لِتَطل بوجوه مُقَنّعة وسرديات مملة حول المظلومية والحقوق والحماية ...ممن ؟! هذه العقلية المريضة التربصية ،الإستئثارية، والعدائية لكل مصلحة عامة اعتمدتها غالبية الطوائف، ومنعت بموجبها تحقيق اي تنمية بشرية واقتصادية حقيقية .
عَمَدَ حكام الطوائف بعد تسلطهم على الدولة الى تعطيل اجهزتها الادارية والرقابية، ونفخوا القطاع العام بأتباع ومريدين، وحولوه الى سوق عكاظ لبناني كل فرد في تكيته يمدح سيده، واقتصرت وظيفته على حماية سدنة الهيكل ولصوصه، وتكونت نتيجة هذا الاداء شريحة من الاثرياء والمتمولين والمنتفعين المنتفخين، وشكلوا عقبة كأداء منعت القطاع العام من تنفيذ مهامه وعمله في وصل اجزاء ومكونات الوطن وَصَهَرَها في انتظام واحد.
استخدم ولاة الطوائف وأبواقهم مقولة "العيش المشترك" ستاراً بشكل مقيت وممجوج لتظهيرالمجتمع كوحدات مفككة، متنافرة، متربصة ببعضها، ’مجمَعة غير مجتمِعة, مستخدمين ثقافة الفساد والنفاق التي بها ممتلؤن، ثم يصرخون ...اين الدولة ؟ وبعد ان سطوا على الدولة الجامعة، عطلوها، نهبوها، وكبلوّها بقيود التخلف، يولون... اين الدولة؟؟ وبعدما افترسوا الدولة يتساءلون... عن الدولة.؟ّ؟؟ بعيداً عن الصراخ والعويل و"النق" والنحيب ..السؤال ؛اين الشعب ؟؟؟ الذي خاطبوه بالامس؛ يا شعب لبنان العظيم، وعاملوه اليوم؛ك شعب لبنان الغشيم !!!
نجح ’حكْم الطوائف في توليد أزمات تتناسل ولا تنتهي؛ أحدث تفكك في الوطن، وتفاوت في المجتمع، وانتج مصطلح "مناطق محرومة " ليستعمله حبراًعلى ورق، قَلَبَ مفاهيم شعب يمتلك تاريخ وثقافة وغنى، وثَبَتَ مفهوم وطن بلا حضارة، و"قيد الانشاء" في الجغرافيا، وتاريح قيد الدرس "لا ’يتفق عليه" ! وسَلَبَ من الشعب ثقته بنفسه بعدما نهبه، َوغَرَبَه في وطنه ومحيطه، وانهكه في بحث مستمرعن هوية بلا حضارة، وثقافة ضائعة،عبّر عنها احد الكتاب ب "شعوب لبنانية" واخر بشكل ساخر(ما في شعب لبناني واحد , في واحد واحد واحد).
أليس غريبا ان تبقى بلاد بلا رئيس وبلا حكومة اشهر وسنوات، في لبنان الامر سيان ,كيف تدار بلاد بلا رأس؟ هل البلاد داشرة، او يوجد راس يدير اجسام بلا رؤوس ؟؟ هذه الحالة كشفت هشاشة التفكير في "المشترك" بين اللبنانين، وغزارة الإنتاج في "المختلف" بينهم ، مما اوجد تفاوت حاد في نمط التفكير بينهم، وافقدهم تلك الحيوية التي رافقتهم سابقا.
اليوم خسر اللبنانيون ميزة "الشطارة"، هذه الخسارة بدأت مع نظام الوصاية، الذي أعادنا الى طور البداوة بمنعه تنفيذ اتفاق الطائف، مستعيناً بامراء حرب ووصوليين ، حولهم الى ساسة ووكلاء نفذوا سياسته، وامعنوا فساداً وخرابا، وعرقلوا مشاريع أقتصادية وانتاجية لو سلكت طريقها انذاك الى التنفيذ، لاصبحت بيروت مدينة عريقة للمستقبل، فعلاً لا قولاً.. وشعاراً.
نظام الوصاية رحل، لكن "انجازاته "أستمرت بفعل وكلاؤه،,ومع هؤلاء امراء الحرب سابقا، قتلة المدن لاحقا، الذين باتوا "ساسة جهنم" مع بعض الكتبة والفريسيّن، تحولت الشطارة الى حقارة. لأنهم قتلوا مدينة أُطلق عليها سابقا "ست الدنيا" وعروس الشرق، ولو قيض لها ساسة اخرون لأمْسَتْ سيدة العواصم، ولؤلؤة المتوسط، وجوهرته الفريدة .
يروي الجنرال "دانتيز"وكان حاكما في لبنان ايام الحرب الثانية في مذكراته؛ كنت ممثلا لحكومة فيشي في لبنان، وعلى تواصل مع المخابرات الالمانية، وكنت اعمل بسرية تحت قيادة ديغول لتحرير فرنسا من الاحتلال الالماني وخلال خدمتي هذه اذهلتني الطبقة السياسية في لبنان، كانوا يتوافدون الى مكتبي معلنين تاييدهم لحكومة فيشي والالمان، وكانت تقاريرهم تصل الى مكتبي متهمين بعضهم البعض بالعمالة للانكيزف وديغول، وحين يأتيني البريد السري من ديغول كنت اتفاجىء ان نفس هؤلاء الاشخاص يراسلون ديغول سرا معلنين الوفاء له ولفرنسا الحرة، ويتهمون بعضهم البعض بالتبعية لحكومة فيشي.كانوا يقبضون من الجميع، ويبيعون كل شيء، وتساءلت اذا رحلنا عنهم لمن سوف يبيعون بضاعتهم ليقبضوا.