غالب الظن انّ قرار رفع الدعم لم يكن قراراً افرادياً اتخذه حاكم مصرف لبنان، فهو يعرف قدرة منظومة السلطة على تحمّل نتائجه في ظلّ المكائد السياسية التي عطّلت المبادرات التي إتُخذت للجم الإنهيار. فبادر الى حشرهم في «سيناريو هوليوودي» بالتفاهم المسبق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من العهد، ويشكّل القرار محطة مفصلية تدفع الى تشكيل الحكومة، فهل ستولد؟ وفي حال العكس ما هو المتوقع؟
لم يكن خافياً على من قادوا سلسلة الوساطات التي رافقت تكليف الرئيس سعد الحريري مهمّة تشكيل الحكومة منذ نهاية تشرين الاول العام الماضي وطوال الاشهر التي تلت، انّ هناك معضلة حقيقية تعوق التفاهم على التشكيلة الحكومية، تتصل بحجم القرارات الصعبة التي على الحكومة اتخاذها، ولا سيما منها قرار رفع الدعم عن عدد من المواد المدعومة بمختلف انواعها، بما فيها ثلاثية المحروقات والطحين والأدوية.
ولا يجب ان ينسى العائدون الى تلك المرحلة، انّ رئيس حكومة تصريف الاعمال رفض في أكثر من مناسبة اتخاذ مثل هذا القرار، مبرراً اصراره على رفضه لمثل هذه الخطوة «الانتحارية» بأنّه لا يريد ان يسجّل احد عليه خرقه للدستور وصولاً الى رفض الدعوة الى اي جلسة لمجلس الوزراء متمسكاً بالحدّ الأدنى من تصريف الأعمال، رغم انّ الدستور لا يمنع اتخاذ اي قرار من هذا النوع في ظروف استثنائية، فالمشرّع لم يتوقع يوماً انّ طاقماً سياسياً كالذي يمسك بالسلطة اليوم، يمكن ان يكون موجوداً في السلطة.
وعلى هامش المناكفات التي بلغت الذروة منذ ان تمنّع الحريري عن تقديم اي تشكيلة حكومية، بعدما رفض رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تشكيلته الاولى في التاسع من كانون الاول الماضي حتى مرحلة الإعتذار، تقدّم اكثر من وسيط بمشروع يحاكي التزامن الممكن تنسيقه، بين قرار رفع الدعم التدريجي والسعي الى تشكيلة حكومية مقبولة بالحدّ الأدنى، الى ان عبرت كل المهل ولم ينجح اصحاب هذه النظرية في ترجمتها حتى الأمس القريب.
وتتمة لما سبق، يعتقد أحد أبرز العارفين بكثير مما هو مطروح في مفاوضات الفترة الاخيرة، وتحديداً منذ تكليف الرئيس نجيب ميقاتي مهمة تشكيل الحكومة، انّ ملف رفع الدعم بات على نار حامية، وانّ المعاندة «المزيفة» التي عبّر عنها اركان السلطة بالتكافل والتضامن في ما بينهم، من مواقعهم المختلفة في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتحديداً رعاة حكومة تصريف الأعمال، قد اقترب موعد التخلّي عنه، بعدما استنفدت غاياته وتقلّص هامش المناورة الى الحدّ الادنى، تزامناً مع حملة شعواء على حاكم مصرف لبنان الذي كان صريحاً معهم، لقاء تفاهم نُسج في السرّ لما سيُقدم عليه «منفرداً».
وفي التفاصيل، فمع كل بيان يصدر عن مصرف لبنان، يحصي مئات ملايين الدولارات التي أُنفقت لدعم الأدوية والمحروقات والقمح ومشتقاته على أنواعها، يشعرون بالإحراج نتيجة فشلهم في الحدّ من موجات التهريب المنظّم، بعدما انخرطت فيه قوى سياسية وحزبية نافذة، تتعدّى الاتهام الموجّه الى من وصف عمليات التهريب الى سوريا «واجباً جهادياً». فكل المعلومات المتوافرة تؤكّد تورط مستوردي الادوية والمحروقات في شبكات منظمة تعتمد الأصول الإدارية والقانونية لتغليف اعمال التهريب وتشريعها لقاء عمولات تُدفع مسبقاً في مستودعات الادوية والمحروقات عداً ونقداً «فريش ماني»، قبل ان تُوزع لاحقاً بنسب مختلفة على مرجعيات حزبية وسياسية نافذة من بينها ممن يشكون مما يجري.
وعليه، فإنّ التوسع في رواية ما يُرتكب من موبقات يكشف انّ ما جرى في اليومين الماضيين شكّل إشارة واضحة الى انتهاء مرحلة وبدء أخرى. وإن صحّت المعلومات التي يصرّ البعض على حجبها عن المواطنين، فإنّ الحديث عن حجم مليارات الدولارات في مصرف لبنان على اساس انّها من الاحتياط الالزامي لم تعد موجودة، بالارقام المسرّبة، بطريقة يشوبها غموض وتعمية على كثير من «الحقائق المخيفة». فقد تجاوز سلامة كل الخطوط الحمر، تعويضاً عن فشل الطاقم السياسي وتقاعسه وتردّده في الإقدام عمّا هو مطلوب منه لجهة تشكيل الحكومة، ليس لأنّها الحل السحري لما نعانيه، بل لأنّها الخطوة الاجبارية التي لا بدّ منها لفرملة الانهيارات المتناسلة من قطاع الى آخر، الى درجة حلّت العتمة الشاملة في أكثر من 70 % من مناطق لبنان وسيلهث اللبنانيون قريباً وراء ربطة خبز، لتضيف طابوراً جديداً الى طوابير البنزين والغاز، عدا عن فقدان ما يريدونه تلبية لقوت يومي.
وعدا عن هذه الظروف الداخلية التي تستوجب تشكيل حكومة بأي ثمن، فإنّ المجتمع الدولي قال كلمته النهائية والمكرّرة، بضرورة وجود سلطة كاملة المواصفات، يمكنها ان تطلق مسيرة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومع الجهات الدولية والمؤسسات المانحة، من أجل استعادة ثقة مفقودة لا يمكن استشعارها قبل البدء بالإصلاحات الجدّية التي يحول الطاقم السياسي النافذ دونها، على الرغم من اعتبارها الزامية، إن اراد اللبنانيون سلوك الطريق الى التعافي والإنقاذ مهما كانت صعبة ومعقّدة.
وبناءً على ما تقدّم، فإنّ العارفين بكثير مما يناقش في الصالونات المقفلة، لا يتناسق وحجم الحملات الرسمية التي يتعرّض لها حاكم مصرف لبنان، بعدما باتت الخطوات الاخيرة التي اتُخذت امراً واقعاً لا يمكن تجاوزه، وعلى الجميع التكيّف معها مع دفع دولي يفرض السعي الى اقفال الملف الحكومي في اسرع وقت ممكن. فالضغوط الدولية قالت كلمتها، وهي تريد حكومة بمفعول رجعي، لوضع حدّ للانهيار الذي لا يتحمّله البلد. وفي حال العكس فانّ الأمور لن تقف عند فرض مزيد من العقوبات، فالجميع يعرف انّ 21 أيلول هو الموعد النهائي لصدور العقوبات الاوروبية الجامعة بحق المسؤولين اللبنانيين، وانّ الادارة الاميركية تحضّر لدفعة جديدة تطاول مسؤولين وكيانات لبنانية، وربما ستصدر تزامناً مع الاوروبية.
وعدا عن هذه الخطوات الدولية التي يمكن ان تُؤجّل لبعض الوقت، فانّ ترددات رفع الدعم على الساحة الداخلية بدت باهتة من دون اي قيمة فعلية، طالما أنّها لن تتمكن من وقف تنفيذه. ولذلك لم تعد هناك مفاعيل لكل المواقف الرافضة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تلك التي صدرت عن رئيس الجمهورية ومعه رئيس الحكومة اللذين حذّرا من «تداعياتها الخطيرة»، تزامناً مع اعتبار رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل أنّها «انقلاب واضح على السلطة والمؤسسات». كذلك اعتبار كتلة «الوفاء للمقاومة» أنّ ما اتُخذ «هو إجراء مرفوض، لأنّه خارج سياق أي خطة انقاذية». وعلى رغم من ذلك النتيجة واحدة.
ونقلاً عن العارفين الكبار، انّ أمام اركان السلطة اياماً معدودة لتشكيل الحكومة، وإلّا فإنّ النتائج المترتبة على اي عقدة جديدة ستكون لها ارتدادات سلبية وخطيرة بالجدّية الكافية على مفتعليها. وعندها سيضطر المسؤولون إلى الاعتراف بـ «الندم عمّا فات من فرص».