قبل يومين عبرت الذكرى السنوية الأولى لدخول البلاد مدار حكومة «تصريف الاعمال»، بعدما فقدت صفتها الأصلية التي أُريدت لها كحكومة «مواجهة التحدّيات». فقد صرعتها النكبات المتتالية ومعها البلد بكامله؟ ولما كان السقوط مدوياً، وباستثناء الاجهزة العسكرية والامنية، فقد شمل الشلل كل ادواته الدولتية الإدارية والسياسية والدستورية والخدماتية، حتى العتمة شبه الشاملة. وفي ظل تعثر تشكيل حكومة جديدة، هل سيحتفل اللبنانيون بالذكرى السنوية الثانية، ليسود الشغور الحكومي حتى نهاية العهد؟
حضرت هذه المعادلة في عدد من الصالونات السياسية في الايام الأخيرة الماضية، في ظل معطيات تفصيلية انتشرت كالنار في الهشيم، بعدما انتهى الاجتماع السادس بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي الجمعة الماضي، من دون اتفاق على أي موعد للقاء السابع. وإن كان الامر طبيعياً، كما فسّرته مصادر الطرفين، انّ عطلة نهاية الأسبوع كانت طويلة امتدت ثلاثة ايام، لتضمّ الاثنين لمصادفته بداية «السنة الهجرية»، ولكن ذلك لم يمرّ على العارفين بالتفاصيل الدقيقة لمجموعة العِقَد المطروحة على طاولة عون وميقاتي.
وتأسيساً على هذه المعلومات، وبالرغم من انعقاد اللقاء السابع بين عون وميقاتي أمس، توسعت رقعة التحليلات ومعها هامش القلق على مهمة ميقاتي. فالامر لا يتصل بالتغيير الحاصل على مستوى الرئيس المكلّف لتشكيل الحكومة، طالما انّ الطرف الثاني المكلّف المهمّة بقي عينه، ولو من موقع دستوري آخر. ولأنّ الرئيس المكلّف حديثاً قد ورث مطالب من سبقه الى المهمّة الفاشلة وتبنّاها، فقد توافرت مقومات التعثر طالما انّ الطرفين حافظا على السلوك عينه ولو بفوارق شكلية وبلغة أكثر ديبلوماسية. وعليه، فإنّ اياً منهما لم يتغيّر، وبقيت ملاحظاته ومطالبه التي أنهت مهمة الحريري بعد 9 أشهر من المفاوضات العقيمة التي لم تبدّل في رأي اي منهما.
ولكن، الحقيقة الصعبة التي لا يريد ان يعترف بها احد من اكثر العارفين ومن الجهلة، انّ من راهن على مواصفات الرئيس الجديد المكلّف تشكيل الحكومة، والحديث عن قدرته على تدوير الزوايا وتحلّله من مجموعة الاتهامات التي تعرّض لها سلفه، اكتشف سريعاً انّه أخطأ التقدير لمجرد التعثر في اللقاء الرابع بين عون وميقاتي. وتيقن انّ شيئاً لم يتغيّر، بعدما اصطدم الرجلان بالمعطيات عينها التي عطّلت المحاولات السابقة لتسعة أشهر مع الحريري، وقبله في أقل من شهر، التجربة التي عاشها السفير مصطفى أديب، الذي لم يحتمل ما تعرّض له من مقالب وأفخاخ لاكثر من 27 يوماً، فاعتذر سريعاً، مقلّصاً تجربته الأولى في حياته، وهو الديبلوماسي الذي لا يعرف المقالب السياسية.
لم يطل الوقت ليعترف أحد القريبين من اديب، انّ قناعته بالرعاية الدولية للحل في لبنان، وحجم تجاوب اللبنانيين مع شكل ومضمون المبادرة الفرنسية بما قالت به من محطات، لن يقبلهما القادة اللبنانيون. فسقطت قناعته بهذه الوساطة بسرعة قياسية، فكان صاحب قرار سريع «بالفرار» من لبنان ومن موجبات المهمة، تاركاً وراءه مجموعة من السياسيين ومنظومة متكاملة، عبّرت بما فيه الكفاية عن عدم قدرتها على تحقيق أبسط الخطوات التي تعهّدوا بها على الطاولة المستديرة في قصر الصنوبر في حضور الرئيس الفرنسي، فسارعوا الى تفكيكها خطوة خطوة، بعد ان سجّلوا بـ «مكرهم» سقوطاً مروعاً للمبادرة «الماكرونية» بالضربة القاضية.
واضحٌ كان من أبرز الضحايا ما حصل في غضون اقل من شهر واحد، فصل بين إطلاق مبادرة ماكرون واعتذار اديب، انّهم من الذين مننوا النفس بأنّ تفجير مرفأ بيروت والنكبة التي حلّت، والغيرة الدولية التي ترجمها ماكرون في غضون ساعات بعدها، انّها قد تحيي ما فُقد من ضمير وشعور بالمواطنة والوطنية، كما وصفها أحد معاوني ماكرون بعد مغادرته بيروت، لمعرفته العميقة بالعقل الذي يحكم لبنان قياساً على تجاربه السابقة. فهو غالط أعضاء الفريق الفرنسي الذي راهن بعد لقاءات 2 ايلول، انّ ما تركه تفجير المرفأ من مآسٍ اهتزت لها البشرية، وما نتج من انتفاضة 17 تشرين 2019 على وقع تفشي جائحة كورونا، سيزيدان من حجم المسؤولية على عاتق اهل الحكم، وانّ في الإمكان ان يغيّروا ما في انفسهم من عادات سيئة، قبل ان يكتشف الجميع انّ ما من شيء قد تغيّر، وانّ مصالحهم الشخصية والآنية ما زالت في المقدمة، بمعزل عمّا تعرض له الكيان والوطن والدولة بكل مؤسساتها من اهتزاز خطير. وأنّه مهما بلغ حجم الخسائر التي ارتعش لها العالم، أصرّ البعض على انّ ما حصل فرصة قد تؤدي الى فك العزلة الدولية عنه، وانّ لا شيء يحول دون مضيهم في غيهم، وانّ ما جاء به الحادث الكيماوي الممزوج بطعم النيترات وبرائحة الدم البريء الذي سال على ارصفة بيروت وفي شوارعها ومنازلها، لم يغيّر في آلية العمل المصلحية كما تنبأ احد أعضاء الوفد الفرنسي المخضرم، مخالفاً انطباعات رفاقه في توصيفه للمنظومة السياسية في لبنان.
وعلى كل حال، وبعيداً من سلسلة الملاحظات التي ما زال معظمها قائماً يتحكّم باللعبة الحكومية حتى اليوم، فإنّ هناك من يعتقد انّه على الرغم من تغيير ابطال المرحلة في اكثر من موقع، فإنّ أحد السيناريوهات السلبية المتداولة، يتجاوز مجموعة العِقد الشخصية والعامة التي تعوق تشكيل الحكومة، بما فيها عملية توزيع الحقائب والأسماء. وهو يذهب في تفكيره ورؤيته للمصاعب، فيراها متجانسة تنمّ عن وجود سيناريو ينزع إمكان ولادة الحكومة الجديدة منه، ولو احتاج الوضع تكليف شخصية رابعة جديدة.
وعليه، فهو لا يرى حاجة لوجود حكومة تعوق مخططات جهنمية يتوق اليها بعض اهل الحكم الذين يديرون شؤون البلاد من بعيد، وبأدوات مطواعة تستعيض عمّا لا تستطيع القيام به حكومة تصريف الاعمال وتؤدي الغرض، ما لم يضمن بعض اهل الحكم حصتهم في العهد الجديد. وهو يعني المرحلة التي تلي موعد الانتخابات النيابية المقبلة سواء جرت ام لا.
والأخطر، انّ هذا البعض يرى في توقعاته البعيدة المدى بكثير من الثقة، وجود القادر على تعطيل الانتخابات النيابية كما تشكيل الحكومة اياً كان الثمن. وهو ما يبرر لا بل يفسّر القصد مما يعتقده البعض من عقبات تؤدي الى الفشل في توليد حكومة جديدة، فيما هو يراها آلية تؤدي الى تحقيق ما يريده في المستقبل. فالمقصود من كل ما يجري الوصول الى الظروف التي يستحيل معها إجراء الانتخابات النيابية لألف سبب
وسبب مادي واداري وربما قانوني ودستوري، وإن احتاج توتيراً أمنياً فهو قادر على هندسته، ليقترب من تحقيق ما يريده من شغور حكومي يساوي بين استمرار حكومة تصريف الأعمال، ليتمدّد الشغور في مقومات الدولة الحاضنة لأبنائها، فيبقى القديم على قدمه في كل المواقع، ويسود التمديد الآمن الى ما لا نهاية.
وعليه تسقط كل السيناريوهات التي تحاكي حكومة جديدة الى تلك المرحلة، الى ان تحتفل الحكومة الحالية بالذكرى السنوية الثانية لاستقالتها وتنحّيها عن القيام بمسؤولياتها. فبدائلها محطات مأسوية يومية يعيشها اللبنانيون الى اجل غير مسمّى..