«يا فؤادي رحم الله الهوى           كان صرحًا من خيال فهوى

إسقني واشرب على أطلاله      وارو عني طالما الدمع روى

كيف ذاك الحب أمسى خبرًا      وحديثًا من أحاديث الجوى

وبساطًا من ندامى حلم      هم تواروا أبدًا وهو انطوى»                        (إبراهيم ناجي)

 

لعن الله الذاكرة المتحلّلة، والأسوأ منها ذاك النوع من الذاكرة الانتقائية التي لا تعرف كيف تستقي العِبر المناسبة من الحدث، وذلك عن طريق تجميل كل شيء ووضعه في خانة النصر، أو تقبيح كل شيء ووضعه في خانة الحقد. والنصر والحقد يدمّران البشر ويجعلان منهم عمياناً وطرشان، لا يرون إلّا انعكاس الذات في المرآة، ولا يسمعون إلّا صدى الأصوات الهاتفة «لبيك...لبيك». الواقع هو أنّ المنتصر قد يحظى بالاحترام ويكتسب الهيبة، ولكن معها الخشية والحسد. والحاقد لا يرى العالم إلّا بمنظار حقده الذي يستهلكه فكريًا وإنسانيًا. لكن الخسارة مثل الغفران، فالإثنان يعيدان البشر إلى إنسانيتهم، ويفتحان باباً للوجدان للتفكير في محدودية القدرات والتواضع، وبالتالي التعلّم من التجربة.


 

أعتذر من جديد لقارئي عن الاستفاضة خارج السياق. فالذاكرة اللعينة عادت بي إلى إحدى مسرحيات زياد الرحباني العظيمة، وإن لم تنل حظها من الحضور والشهرة، وأظن أنّ السبب كان صعوبة فهمها وانغماسها بالغموض، وربما لأنّ الوضع الأمني لم يسمح يومها باستكمال العروض. لعنتي على الذاكرة هي لأني لم أعد أذكر أي مسرحية كانت تلك، لكنني أظن أنّها كانت «شي فاشل»، سنة 1983، في قاعة ضئيلة الحضور معتمة، في مسرح البيكاديلي المأسوف على غيابه القسري. اللقطة التي علقت في ذاكرتي هي وجود شخص في المسرحية يعرّف عن نفسه بأنّه «أخو الشهيد»، وكان يعتبر نفسه بأنّه «فرفور ذنبه مغفور» لكونه «أخو الشهيد»، وكان يشبح ويتجاوز الحدود ويستولي على الملك العام ويتحجج بأنّه حقه لكونه «أخو الشهيد»... بالمحصلة، فإنّ أحد الممثلين المسالمين، في فورة غضب، يقتل أخا الشهيد، بعد أن ضاق ذرعًا بتذرعاته! الخاتمة القاتمة كانت بتحوّل البلد إلى طلل، وعودة الأعشاب البرية لتغزو كل ما تبقّى من مدنية.

 

لم أتوقَ الدقة في شرحي، فالعتب كما قلت على الذاكرة، ولا أظن أنّ زياد الرحباني سيتبنّى تحليلي الآتي، وهو الذي تحول في مرحلة ما إلى أحد مناصري أخي الشهيد، يدافع عنه من دون لا منطق ولا حتى احترام نتاجه الفكري الأدبي الفني الشخصي. ولست أعلم اليوم ما هو موقفه مما وصلنا إليه، من حال توقعها بزوال كل مظاهر المدنية، بعد أن نبت القمح المزري إثر الانفجار العظيم، بين مفاصل ما أصبح رسمًا دارسًا في المرفأ وفي المحيط المكلوم Lamentably، أو كما قال الرئيس في رثائياته الأخيرة Lemon Tably.


 

بالعودة إلى تشبيح «أخو الشهيد»، ولا اعتراض عندي على كون أحدهم أخا الشهيد، ولو قمنا اليوم بإحصاء عام في لبنان المنكوب على مدى خمسة عقود، لتأكّد لنا بوضوح أنّ كل لبنانية ولبناني هما أم أو أب أو أخ أو حفيد أو إبن... شهيد. وبالطبع لا يمكن لأحد هنا أن ينكر الشهادة ويحصرها بقضية أو موقعة أو عقيدة. فالشهيد هو ما يعنيه للمعني، وليس للآخر. فلا فضل إذًا لأخي شهيد على آخر، وبالتالي لا حق لأخي شهيد على آخر. هذا يعني أنّه لا حق لأخي شهيد باحتلال أرض الناس وأرض الدولة والبناء عليها، ويعني أنّه ليس له الحق بصناعة وبيع الكبتاغون وتهريبه، ولا يحق له خطف حياة الناس وتفجيرهم وقطع أرزاقهم، ولا يحق له أن يهرّب عبر المرفأ وعبر الحدود وعبر المطار، ولا يحق له أن يعبر الحدود للقتل في سورية والعراق واليمن، ولا يحق له تبييض الأموال واستباحة أمن البلاد وتأليف ميليشيا لحساب إيران أو أي بلد آخر...

 

ما حدث منذ أسبوع في خلدة، والأهم ما حدث في شويا منذ أيام، ما هو إلّا مسدس شهره مواطن مسالم في وجه أخي الشهيد ليقول له «هذه نهاية التشبيح».

 

ملحوظة يعرفها إخوة الشهيد، سنة 1982 استقبل بعض أقرباء الشهيد العدو الغازي برش الأرز، لأنّهم ضاقوا ذرعًا بأخ شهيد آخر، فهل من يتذكر؟ وإن تذكّر فهل يتعلّم الدرس ويرعوي؟