أنهى تبنّي «حزب الله» عملية إطلاق الصواريخ في اتجاه الأراضي المحتلة «أسطورة» العناصر «غير المنضبطة»، بعدما أدى توقيف عناصر المجموعة التي أطلقتها والمنصة المستخدمة في بلدة شويا الى كشف المستور. فلم يكن وارداً ان يتبنّى الحزب العملية التي بدأت فصولها صباح «يوم النكبة» التي حلّت ببيروت في 4 آب، وهو ما رفعَ من نسبة القلق على تعدد الاجندات التي تستهدف اللبنانيين رغم حجم مآسيهم. فما الذي يعنيه ذلك؟
إنتظر اللبنانيون بعض الوقت للتثبّت من صُدقية وجدية البيان الصادر عن «حزب الله» تحت عنوان «المقاومة الإسلامية»، الذي وَثّق عملية اطلاق الصواريخ من منطقة العرقوب في اتجاه الأراضي المحتلة عند الساعة الحادية عشرة والربع قبل ظهر امس، رداً على الغارات الجوية الإسرائيلية على «أراضٍ مفتوحة» في منطقتي الجرمق والشواكير ليلة الخميس الماضي، مخافة ان يكون البيان كاذباً او «دسّاً رخيصاً» لاتهام الحزب بالعملية قياساً على التجارب السابقة التي أجمعَ فيها الاسرائيليون واللبنانيون وقوات الامم المتحدة المعززة («اليونيفيل») ومعهم «حزب الله» في كل مناسبة على اتهام مجموعات فلسطينية «مُتفلّتة مجهولة الهوية والانتماء» بالقيام بها بِهدف توتير الوضع في جنوب لبنان.
ولكن ما أسبغ على البيان شيئاً من الجدية ـ قبل التثبت من صدقيته كاملة - أنه حدّد هويّة منفذي العملية ونَسبها الى «مجموعات الشهيد علي كامل محسن والشهيد محمد قاسم طحان» اللذان سقطا في وقت سابق في اعتداءاتٍ إسرائيلية في الداخل السوري وعلى الحدود الجنوبية؟ وهو ما دفعَ الى بعض الاقتناع بجدية البيان، إلى أن انطلقت حملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تهاجم أبناء بلدة شويا في قضاء حاصبيا، أعقبت توضيحاً للحزب اتهم فيه أبناء شويا باعتراض «مجموعة المقاومين». فهم الذين اعترضوا منصّة الصواريخ المحمولة على شاحنة عندما أطلقت صواريخها من محيط منازلهم في اتجاه الاراضي المحتلة والمجموعة المسلحة التي رافقتها، وتعاطَوا معهم بعنف قبل تسليمهم الى وحدات الجيش اللبناني في المنطقة. كما استهدفت الحملة ابن البلدة يحيى التيماني متّهمة إيّاه بـ»العمالة لإسرائيل»، بمعزل عن اعتقاد اهل البلدة بأنّ مطلقي الصواريخ لبنانيين من «حزب الله» أم انهم فلسطينيون عاثوا فساداً في المنطقة منذ ان وجِدَت «فتح لاند» في منطقة العرقوب قبل عقود من الزمن.
وبعيداً من هذه الملاحظات التي لا بد منها، فإنّ إعلان «حزب الله» رسمياً عن العملية فتحَ صفحة جديدة في التعاطي مع مثل هذه العمليات التي تكررت في الفترة الأخيرة، وكادت ان تودي بالأمن المتوافر بحدّه المثالي في المنطقة منذ 12 آب 2006 تاريخ صدور القرار 1701 الذي أعقَب حرب الـ 33 يوماً، ولم تقطعه سوى عمليات محدودة بقيت من دون معرفة هوية المخطّطين والمنفذين على الأقل بالنسبة الى اللبنانيين. فمِن المؤكد انّ هويتهم معروفة في القناة المفتوحة بالواسطة الخارجية بين اسرائيل و»حزب الله» التي يتبادلان عبرها الرسائل منذ سنوات عدة، من دون ان تكون واضحة بالنسبة الى عموم اللبنانيين قبل ما حصل في الأمس. والأكيد انها عملية كشفَت كثيراً ممّا كان غامضاً طوال الفترة الاخيرة، والذي طَفت به الى سطح الاحداث بعض العبارات الرموز التي استخدمت في البيانات الرسمية الاسرائيلية وتلك الصادرة عن «حزب الله». فالطرفان استخدما عبارة «أراض مفتوحة» يبدو أنها «استنسخت» من اتفاق سري سابق بين الطرفين. ولربما ما هو معتمَد منذ تفاهم نيسان 1996، لمجرد إشارتها الى انّ القصف استهدف مثل هذه «الاراضي القاحلة»، للدلالة على إمكان تَبادل الرسائل عبرها من دون المَس بالمناطق الآهلة مَخافة ان يؤدي ذلك الى انفلات الوضع وتجاوز الطرفين خطوطاً حمراً من الواجب ان تبقى معالمها سرية للغاية.
والى هذه الملاحظة التي لا يمكن تفويت أهميتها، فقد توقف خبراء في تاريخ النزاع بين اسرائيل و»حزب الله» عند مؤشرات اختيار هوية «الشهيدين» اللذين نسَب إليهما «حزب الله» العملية. فقالت انها عملية هَدفت إلى إفهام الجانب الاسرائيلي انها لم تكن رداً على القصف الجوي الذي استهدف «أراضٍ مفتوحة» في منطقتي الجرمق والشواكير في جنوب لبنان ليلة الخميس الماضي فحسب، لا بل شكّلت رداً على عملية سابقة استهدفت مواقع «حزب الله» في الداخل السوري، والدليل يكمن في هوية أحد «الشهيدين». فالقيادي في الحزب «علي كامل محسن»، الذي ورد اسمه في البيان، قتل في 23 تموز العام 2020 في الهجوم الذي استهدفَ موقعاً للحزب على طريق مطار دمشق الدولي. أما محمد قاسم طحان فهو الذي قتل في المواجهات التي شهدتها الحدود اللبنانية - الاسرائيلية في 15 ايار الماضي عندما أطلقت النيران في اتجاه مجموعات من المتظاهرين في الجانب اللبناني دعماً لفلسطينيي غزة، بعد ايام قليلة على الحرب التي اندلعت في محيط قطاع غزة في 9 ايار بعد محاولة اسرائيل إخلاء العائلات الفلسطينية من المنازل المُستأجرة في «حي الشيخ جرّاح» في القدس الشرقية.
والى مجموعة الرسائل التي تنمّ عنها العملية، فقد توقفت المراجع السياسية والديبلوماسية امام مجموعة اخرى منها، وخصوصاً تلك التي تستهدف الداخل اللبناني الذي لا يتحمّل الرسائل الساخنة. وعليه، لم يكن صعباً ان يفهم البعض انّ المرحلة الاولى من العملية نفّذت صباح 4 آب الجاري في الوقت الذي كانت كل الانظار تتّجِه الى «يوم الغضب» في الذكرى السنوية الاولى لتفجير المرفأ وما حَصدته العملية من ضحايا وأضرار طاولت الحجر والبشر، كما تزامنت مع وقائع المؤتمر الدولي لدعم لبنان الذي دعا اليه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وشاركت فيه عشرات الدول التي قدمت دعماً إنسانياً، وبهَدف صَرف النظر عن المحطتين رغم أهميتهما بالنسبة الى عموم اللبنانيين.
ولذلك، طرحت مجموعة من الاسئلة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هل يمكن ان يكون 4 آب التوقيت المناسب للتذكير بالمواجهة المفتوحة بين اسرائيل و»حزب الله» في سوريا ولبنان معاً؟ وهل ان في ذلك اليوم ما يُقلِق الطرفين من ان يكونا سبباً في جريمة تفجير المرفأ التي عُدّت ضد الانسانية؟ وهل هو الوقت المناسب للتعكير على الأجواء الضاغطة التي تواكب التحضير لتشكيل الحكومة العتيدة التي طال انتظارها عاماً كاملاً إلّا ثلاثة ايام؟ وهل هو التوقيت المناسب لإعلان الحزب انه طَرف في المواجهة بين تل أبيب وطهران، والتي تجلّت في الأيام الأخيرة والتهديدات المتبادلة بينهما، تزامناً مع استمرار «حرب السفن» التي استهدفت منذ اسابيع عدة بواخر إيرانية واسرائيلية في عمليات متبادلة قبالة المياه الاقليمية السورية ودولة الامارات العربية المتحدة وفي بحر العرب؟
وفي أي حال، وأيّاً كانت الظروف التي حكمت «عملية شويا» في توقيتها ومضمونها، فإنّ فئة واسعة من اللبنانيين فهمت مجموعة الرسائل التي عليها تَبلّغها من الحزب دفعة واحدة، ومنها: انّ انشغال اللبنانيين بالوضع الداخلي الهَش في لبنان لا يلزم الحزب به، فهمومه أكبر بكثير تتعدّى الساحة اللبنانية الى ما هو أبعد بكثير، وهو لم ولن يتلهّى بالعملية الجارية لتَقاسم الحقائب والمغانم في عملية تشكيل الحكومة. وبعيداً من التوسّع، فإنّ ما يختصر المشهد انّ على اللبنانيين أن يفهموا انّ صواريخ العرقوب هدفت الى إبلاغ الجميع من خصوم وحلفاء ان «لكم لبنانكم ولنا لبناننا». ونقطة عالسطر.