على عكس العلاقة بين وزارة الطاقة والبنك المركزي، يبدو انّ هناك معركة مفتوحة بين وزارة الصحة ومصرف لبنان وتجاذبات بين الطرفين، ما أدّى الى انسداد الأفق لغاية اليوم بالنسبة الى ما يتعلّق بأزمة انقطاع الادوية. فمنذ أيار الماضي لم يتم استيراد أي «حبّة» دواء الى لبنان، ولم يمنح مصرف لبنان موافقة مسبقة واحدة لاستيراد الأدوية المدعومة، وهي أدوية الامراض المستعصية والمزمنة، علماً انّ مخزون تلك الادوية قد نَفد بشكل شبه كامل منذ أواخر تموز الماضي، ليجد آلاف المرضى أنفسهم بين الحياة والموت.

الادوية المدعومة للأمراض المزمنة ليست وحدها المفقودة من السوق، فالادوية الاخرى، والتي تم رفع الدعم عنها، هي أيضاً منقرضة. والسبب، انّ اللائحة التي أصدرتها وزارة الصحة لحوالى 2000 دواء غير مدعوم، قد حّددت أسعارها الجديدة على سعر صرف 12 الف ليرة مقابل الدولار.


 

فمَن هو المستورد المستعدّ اليوم لتحمّل خسارة بقيمة حوالى 8000 ليرة لكلّ دولار مع بلوغ سعر الصرف في السوق السوداء الـ 20 ألف ليرة؟

 

لا يجد المعنيّون في القطاع الصحي أيّ تبرير لفتح اعتمادات لاستيراد المحروقات والفيول بمئات ملايين الدولارات، بدلاً من استيراد ادوية الامراض المستعصية على الاقلّ، كونها الأولوية الوحيدة اليوم لإنقاذ آلاف الارواح. ويتساءلون: هل انّ تأمين المازوت للمستشفيات كفيل وحده بإنقاذ المرضى في ظلّ انقطاع الادوية؟

 

في هذا الاطار، أوضح نقيب مستوردي الادوية كريم جبارة لـ»الجمهورية» انّ مصرف لبنان لم يوقّع أذونات مسبقة لاستيراد الادوية المدعومة منذ ايار الماضي، علماً انّ هناك عدداً كبيراً من الطلبات المقدّمة إليه من قبل المستوردين، مؤكداً انّ المستوردين لم يرفضوا الاستيراد المدعوم قبل تسديد كامل مستحقاتهم لدى مصرف لبنان والبالغة 600 مليون دولار، بل هم على استعداد، في حال حصولهم على موافقة مسبقة للاستيراد، الى التفاوض مع الشركات المصدّرة للبحث في إمكانية استيراد، ولو نسبة قليلة، من أدوية الامراض المستعصية أوّلاً والمزمنة ثانياً، قبل تسديد مستحقات المصدّرين. ولفت جبارة الى انّ مصرف لبنان سدّد 40 مليون دولار فقط من أصل الـ600 مليون لغاية الآن، «ورغم ذلك نحن مستعدّون للبحث في إمكانية توصّلنا مع المصدّرين (كلّ مستورد وفقاً لحجم مستحقاته للشركات المورّدة) الى صيغة لمواصلة الاستيراد قبل تسديد كامل المستحقات، مشيراً الى انّ النقابة حذّرت منذ حزيران الماضي من فقدان مخزون تلك الادوية ووقوع كارثة ستصيب كافة مرضى تلك الامراض، «فالمخزون المتبقّي لدى مستوردي تلك الادوية شبه نافِد اليوم والاستيراد متوقف كليّاً».


 

وشرحَ جبارة ان ّالادوية الاخرى التي أصبحت غير مدعومة مفقودة من الاسواق، لأنّ سعر الصرف المحدّد لبيعها في السوق (12 ألف ليرة مقابل الدولار) يقلّ بشكل كبير عن سعر الصرف الحقيقي. «وبالتالي، لا يمكن لأي مستورد ان يتحمّل تلك الخسائر». وقال انّ الصيدليات التي يمكن ان يكون لديها مخزون من الادوية غير المدعومة، ترفض أيضاً بيعها على سعر صرف 12 الف ليرة، لأنها ستتكبّد خسائر في رأسمالها لاحقاً، ولن تستطيع إعادة التخزين في حال تم استيراد تلك الادوية في المستقبل على سعر صرف السوق.

 

واعتبر، ردّاً على سؤال، انّ تحديد سعر صرف للادوية غير المدعومة مُغاير لسعر الصرف الحقيقي، قرار غير منطقي، مرجّحاً ان يكون قد اتُّخِذ لعدم إثارة نقمة شعبية وارتفاع اسعار الادوية بشكل كبير، «إلّا انّ هذه المعضلة أدّت الى نقمة من نوع آخر بسبب فقدان تلك الادوية من السوق». وقال انّ المستوردين غير مستعدّين لاستيراد الادوية غير المدعومة في حال بقيَ سعر مبيعها محدّداً وفق سعر صرف الـ12 الف ليرة، لافتاً الى الافراج عن مخزون الادوية الموجود حالياً لدى المستوردين ينتظر قيام وزارة الصحة بإحصائه وتحديد قيمته وحَسم قيمته من المستحقات لدى مصرف لبنان، لأنّ تلك الادوية قد تم استيرادها مدعومة على سعر صرف الـ1500 ليرة وسيتم بيعها اليوم على سعر صرف الـ12 ألف ليرة، مشيراً الى انّ مخزون تلك الادوية ليس كبيراً وقد يؤمن حاجة السوق عند الافراج عنه، لحوالى أسبوعين فقط.


 

سكرية

من جهته، حذر رئيس «اللقاء الأكاديمي الصحي» و»الهيئة الوطنية الصحية - الصحة حق وكرامة « اسماعيل سكرية، في تصريح امس، من «تعرّض آلاف مرضى السرطان في لبنان للأذى والتراجع الصحي بسبب فقدان أدوية العلاجات الكيميائية، كما أدوية تقوية المناعة لديهم، فقداناً تاماً، إلا النذر اليسير، في الوزارة والمستشفيات والصيدليات ومنذ أكثر من أسبوعين ومن دون أفق حل قريب، وهو أقصى وأقسى تعبير عن لاإنسانية المعنيين ونظرتهم للمريض كسلعة تحتسب في لعبة الأرقام المستمرة منذ عام تقريباً بين الأطراف المعنية بالامن الدوائي، من حاكمية مصرف ووزارة الصحة العامة ونقابة الصيادلة والمستوردين، مع فوارق نسبية بحجم المسؤولية».

 

وأكد أنّ «الحالات الصحية لمرضى السرطان لا تنتظر مفاوضات ومناورات حلول ورضى المستورد المدولر وألغاز المصرف المركزي ووعود وزارة الصحة المتكررة، إنه المشهد الأبشَع بالمعيار الانساني والاخلاقي، ويحتاج إلى قرارات استثنائية طارئة وجريئة تكسر الاحتكار وسلطته وديكتاتوريته المتحكّمة بسياسة الدواء في لبنان».