ما الذي يُتوقَّع في 4 آب 2021؟ هل سيكون انطلاقة ثابتة نحو تحقيق ما عجزت عنه انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، أم سيكون محطة أخرى في مسلسل الخيبات، حيث منظومة السلطة تُعيد بسط السيطرة وتُمْسِك بكل الخيوط؟
صراحةً، ومن دون مداراة للمشاعر، لا «انقلابَ» يُنتظر من الحراك الشعبي الذي سيملأ حَيِّز الذكرى السنوية الأولى لكارثة المرفأ. وبصراحةٍ أشدَّ قساوة، إنّ احتمال تحقيق «الانقلاب» على منظومة الفساد الحاكمة تراجَع تدريجاً على مدى عامين ليصبح تقريباً في حدود الصفر… وهو باقٍ كذلك حتى إشعار آخر.
ad
وهذه المنظومة تبدو اليوم أقلّ خوفاً على رأسها مما كانت قبل عامين، بعدما نجحت في تنفيس كل الانتفاضات الكبيرة والصغيرة التي تعاقبت، وأبرزها اثنتان: انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 وانتفاضة 4 آب 2020. واليوم، ثمة انتفاضة ثالثة يُراد أن تكون بوزنٍ مماثل.
ولكن، ستبلغ اليوم درجات الغضب الشعبي ذروتها، وسيواكبها الإعلام بكثافة ما يضاعف من قوتها. وستلجأ قوى السلطة كلها إلى استخدام «الأسلوب الناعم»، إذ ستحاول استيعاب غضب الأهالي الذين قضى أبناؤهم ضحايا الفساد، أو أصيبوا بإعاقات، أو خسروا منازلهم وممتلكاتهم. والأنكى أنّ بعض أركان المنظومة سيقفون في صفوف المواساة مع أهالي الضحايا.
وسيتاح قصداً للناس أن يصرخوا من الوجع. ولكن، في النهاية، هناك مَن جرى تكليفه بقمعهم إذا «تجاوزوا الحدّ»، سواء بالقوى المنظّمة أو بالموتوسيكلات أو باستثارة مناخات الفتنة الطائفية والمذهبية. ولوائح الاتهام بالخيانة والتخريب جاهزة.
فوق ذلك، لا تزال منظومة السلطة تحظى بمستوى مقبول من التغطية الإقليمية والدولية. وحتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، صاحب مبادرة الإنقاذ الوحيدة والطارئة بعد انفجار المرفأ، يحاذر المواجهة المباشرة مع هذه المنظومة ويهادنها، ويكسب الوقت بمساعدات إنسانية للشعب والجيش، لعلّ التسوية تولد في لحظة وتريح الجميع. وأما العقوبات التي فرضها مع الأوروبيين فجاءت متأخّرة ومحدودة الفعالية.
دبَّر أركان المنظومة مناخات تساهم تلقائياً في تنفيس الاحتقان الشعبي في 4 آب، خصوصاً بعدما تضامنوا لمنع مثول أي منهم أمام القضاء، تحت أي عنوان كان. وقضت الخطة بإبعاد الضوء عن الملف القضائي وتسليطه على الملف الحكومي. والأهالي الذين سُدَّت أمامهم كل الطرق للوصول إلى الحقائق في ملف التفجير، تجري محاولات لإلهائهم وتنفيس غضبهم بالوعود في ملف الحكومة وببعض الانفراجات المصطنعة، مالياً واقتصادياً.
ولكن، في أي حال، هذه الخطة كانت هشّة إلى حدّ أنّها سقطت قبل الأوان. ولا تبدو المنظومة قلقة من تداعيات يوم 4 آب، فقد جرّبت الانتفاضة على مدى أشهر في العام 2019، وتمكنت من إحباطها.
هل يعني ذلك انكساراً حتمياً للانتفاضة الجديدة المنتظرة في 4 آب؟
الحريصون على الانتفاضة يخشون أن يقولوا «نعم». وهذه هي الحقيقة بالعين المجردة. وستُثبِت الأيام القليلة الآتية ما إذا كان التوقّع متسرّعاً وظالماً أو في محلّه. لكن التجربة في الانتفاضتين الكبيرتين السابقتين، في 17 تشرين و4 آب الفائت، كانت معبِّرة. ولا يبدو أنّ تغييراً جذرياً على توازنات القوى قد طرأ ليبدّل في نتائج المواجهة الجديدة.
في 17 تشرين، كان زخم الانتفاضة استثنائياً، بل تاريخياً. وقد هزَّت معاقل منظومة السلطة فعلاً، فخاف الجميع على رؤوسهم. ولكن، سريعاً، بدأت المنظومة تنفيذ خطة متشعبة الأبعاد فيها الترغيب والترهيب والاستيعاب وكسب الوقت. ومع تكليف حكومة الرئيس حسّان دياب، والمهلة التي أُعطيت لحكومته، تلاشت الانتفاضة.
وفي آب 2020، كان طبيعياً أن تقود الصدمة إلى إحياء الانتفاضة. لكنها لم تفعل. وهذه المرّة، أخذ الفرنسيون دوراً وفاوضوا المنظومة، فوعدتهم بالكثير وأوحت بأنّها رضخت. ولكن، بعدما بَردَ الجرح، كشفت عن وجهها الحقيقي وقالت «لا» للمبادرة الفرنسية. وحتى اليوم ما زالت باريس تراهن عبثاً على «تطويع» المنظومة.
ولكن، ما يجب قوله أساساً هو أنّ السبب الأول لخيبات الانتفاضة يكمن فيها نفسها. فهي لم تتوحّد على برنامج أو قيادة. كما أنّ المنظومة زرعت «أحصنة طروادة» بين رموز الانتفاضة، واستخدمت مع بعضها لعبة الترغيب والترهيب. وفي أي حال، ليست سهلةً مواجهةُ منظومة تمتلك كل السلطة وأدوات الضغط غير المشروعة.
في الخلاصة، بات واضحاً أنّ الانتفاضة تخوض مواجهة مع «الدولة العميقة»، وهي قوية جداً ومتجذرة، وأركانُها متوافقون في ما بينهم ويتبادلون الدعم على أنواعه، من المال إلى الخدمات إلى القضاء إلى الأمن. ولا يمكن للانتفاضة تحقيق الانتصار على هذه «الدولة» إلاّ بخطة متماسكة وباستجماع عناصر القوة المناسبة.
في الانتظار، سيكون هناك رهان على زعزعة أركان «المنظومة» في شكل تدريجي وبطيء. لكن الانتصار في هذه الحال سيستغرق وقتاً طويلاً. وخلال ذلك ستطرأ متغيِّرات كثيرة لا يمكن تقديرها أو حصرها.