الدراما هي قلب الموازين المشهديّة بعيدًا عن نمطية المألوف، وإعادة رسم جديد لصورة الأبطال وعوالمهم، فليس من السهل الوصول إلى “دور العمر” الذي ينتظره المشاهد من الممثل في كل مرة.
تلعب الممثلة سيرين عبد النور واحدًا من أجرأ أدوارها على الإطلاق بشخصيتها شمس مع الممثل عادل كرم في مسلسل دور العمر، الذي فأجانا بفكرته التي تحلق خارج السرب والتي تجمع بين الدراما والإثارة والرعب النفسيّ، وبإخراج مشبع التفاصيل بعدسة سعيد الماروق.
تجسّد سيرين بدورها البطولي “شمس”، أغرب شخصية يصعب تحديد إن كانت مركبّة أم لا لفرط خباياها النفسية وخططها، فهي إبنة منتج أعمال درامية شهير أقصاها والدها بوضعها في مصحة علاجية بدعوى الانفصام بعدما كشفت خيانته لوالدتها، فتعود من سويسرا بسيكولوجيا نفسية غريبة هدفها الانتقام من كل المجرمين دفعة واحدة.
استغلت شمس قرابة والدها بالنجوم المحيطين به، لتختار النجم “الجلاد” الذي خططت للوصول إليه بدهائها. ترسم شمس إحدى الحقائق النفسية الصعبة، فهي مصابة في الواقع بالتأثر بشخصية درامية في كل أبعادها، ولأنها ذات قيم إنسانية رغم إجرامها، لكنها تنجح في إخراجه من الدراما إلى الواقع لينفّذ سلسلة جرائمه التي تستهدف الفاسدين ويكون جلادا في الحقيقة، والدليل إبقائه على نفس الملابس والإطلالة السوداء التي يؤديها في مسلسله “الجلاد”.
إن سيرين في كل المشاهد لا تقدم مشهدا عاديا بقدر ما كانت تلعب بأعصابنا المشدودة، ارتدت الشخصية ارتداءً مخيفا ومبهرًا، فهي تجيد استخدام لغة جسد مستنفرة وتهكمية، ترتكز في طريقة مسكها للسيجارة بطريقة أرستقراطية، في طريقة مشيتها وحركاتها التي تؤكد بها قوة انفعالاتها، وفي ملامحها الاستفزازية من خلال ما ترسمه من تعابير، إضافة إلى ضحكتها الهستيرية، شخصية تملك ألاعيب نفسية كثيرة، وتعرف بأية حيلة نفسية تهرب من الاستجواب والتحقيق ومن المواقف.
إخراج سعيد الماروق أضاف إلى شخصية شمس الكثير ولصورتها، بل وساعد في اكتشاف خبايا الشخصية أكثر، من خلال اطلاعنا عبر تقنيات إخراجية كثيرة على ما هو مخفيّ بداخلها كالماضي، لعل سعيد قد استعان بمقولة “العينان نافذتان”، لينفذ من خلال لقطة تقريبية لعينيّ البطلة إلى ماضيها السري وعذابها القهريّ الذي عاشته في مصحة عقلية. في المصحة، استخدم الماروق مشاهد بطيئة أحيانا ولقطات عامة كثيرة ليبرز نواحي المكان وقدمه ليبرز انطباع الشخصية للمكان . يفاجئنا حينًا بمشاهدَ تراها عيون البطلة وأخرى نراها نحن، ليخلق انسجامًا بصريا بين ما يريدنا أن نراه وبين ما يريد أن يعرّفنا إلى ما تراه الشخصية في لحظات ألمها الدفين. كما استعان باللقطات العامة بعد اللقطات المقربة، ليفاجئنا بمشهد صادم كمشهد وجود شمس في بانيو مليء بالدم وليؤكد لنا بذلك جنونها النفسيّ.
أما من حيثُ لقطات الرعب النفسيّ الذي يظهر في المسلسل، كانت عند محاولات دخول “فارس” إلى أوكار المجرمين في كل مرة مثلا، واستعان سعيد بموسيقى تزيد من توترنا ولتجعلنا عدسته في حالة ترقب لما سيجري وما إن كان البطل سيصل إلى ضحيته دون عوائق. ولعل أهم تقنيات الإخراج التي استخدمها المخرج كانت في مشهد محاولة الوصول إلى المرأة المتاجرة بالقصّر وإزهاقها، هنا استخدم سعيد مشهدين مندمجين معًا بإخراج تزامني متناسق، إذ يرينا ما يحدث في نفس الوقت، شيئا آخر وهو سطو عشيق أخت البطل على منزل فارس، مركزًا على تشويق ثنائيّ يضاعف حماسنا ويلعب بحواسنا جميعها ليجعلنا مركزين على الصورة من كل نواحيها، وهنا يأتي دوره في إضفاء إيقاع وألوان تتضافر مع بعضها البعض لتخلق مشهدا حيا.
حافظ الماروق على ذات الصورة الإخراجية عندما يحاول البطل فارس الذي يجسده عادل كرم الالتفاف حول ضحيته. في كلّ مشهد، يقرب الكاميرا مركزا على انتفاضة جسدها الأخيرة من خلال إظهار أرجل الضحية إلى تتوقف على الحركة، ليؤكد بذلك على السمة التكرارية التي يعتمدها الـ”الجلاد” في كل مرة وليؤكد لنا أنه قاتل متسلسل، يقوم بجريمته بنفس الطريقة.
اللافت أيضا أن زوايا التصوير للشخصيات كانت برؤية مختلفة وبإخراج عالميّ يخلق متعة الفرجة كلما غاص بنا في عمق كل شخصية من خلال عدسته، ودور العمر من المسلسلات التي تتطلب رؤية إخراجية مكثفة، كاميراته كانت روح الشخصية وأفعالها. يقترب منها فيكشف لنا نواياها، ويبتعد وهو يدور من حولها ويأخذها من كل الأبعاد، لنراها من جميع جوانبها الدرامية.
ما نريد قوله هو أن سعيد الماروق يبتكر أسلوبا جديدا للسرد من خلال الصورة التي يخلقها بدءًا من التفاصيل الصّغيرة التي يبدأ بها المشهد، فالألوان، فالتقنيات المكثفة، فبناء الحدث وأطواره، أحيانا بالاندماج المتزامن بين مشهدين متباعدين مكانيا لكنهما مشتركان في ذات الفعل الدرامي، وأحيانا من خلال التركيز على المكان وإلإضاءة، فعند إظهار مشهد يحمل غموضا نفسيا أو يثير القلق النفسي يوظف الماروق إضاءة أخفت ليترك المكان متحكما في انفعالنا. وأحيانا يركز على الشخصية لتأخذ سردها الصوريّ الخاصّ بها، وهو ما ميز إخراجه، فالماروق يستخدم أسلوبا تصويريا لكل شخصية لا يستعمله مع أخرى، والأسلوب السردي الصوري الذي يستعمله مع شمس غير الأسلوب الصوريّ الذي يستخدمه مع فارس، وذلك لنفهم طريقة كل شخصية ونظرتها إلى الأشياء، مع شمس مثلا يركز على تعابير الوجه والجسد بشكل عام ليعبر عن موقفها من شيء ما، ومع فارس يستخدم لقطة جانبية أو يظهرها من الخلف في عدد من المشاهد، لنفهم بذلك غضبه أو تجاهله مثلا. كمشهد محادثته مع صانع مسلسله “الجلاد”.
هذه المقاييس التصويرية هي التي حددت بصمة العمل وخلقت رؤيته الإخراجية التي يتمتع بها مسلسل دسم وثقيل من هذا النوع، بحيث كان لا يشبه أي عمل آخر غيره من الناحية الإخراجية وحتى في موضوعه وتظهر خبرة سعيد الدقيقة التي اكتسبها على مدى عمر، لا سيما وأن هذا عمل من النوع الذي يروي قصصا مختلفة في كل حلقة، ما يعني أنه يستدعي بالضرورة اختلافا في طريقة الإخراج وتناول كل حلقة على أنها فلم خاص، وهو ما يضيف إلى خصوصية مسلسل “دور العمر” وأحداثه التي تتحدى أبعاد النفس البشرية وأسرارها ونزواتها ونزعاتها المختلفة.
الجدير بالذكر أن المسلسل يناقش عدة قضايا اجتماعية في كل حلقة، ويتطرق إليها ليبرز مآل الفاسدين المتورطين في جرائم كثيرة كالتجارة بالأعضاء والمخدرات، والاعتداءات الجنسية واستغلال القصر ومعاناة النساء في السجون وغير ذلك، وهو ما يميز نوعه ويجعل من الثنائي فارس وشمس اللذين يلعبان دوريهما عادل كرم وسيرين عبد النور محبوبين وقريبين إلى قلب المشاهد، فهما حتى وإن كانا مصابين بعقد نفسية لماضٍ تعيس مشترك، إلا أنهما حررا العالم من قبضة العقد التي يقوم المجرمون الكبار بخلقها.