في موازاة المفاجأة التي أحدثها إعلان الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري اعتذاره عن مهمّة تأليف الحكومة من منبر بعبدا على وجوه الاعلاميين للحظات، ساد صمت مطبق في أكثر من صالون سياسي وحزبي، اما تهيّباً لمرحلة ما بعد الخطوة، او استعداداً لمواجهة صعبة. لكن ما يجدر التوقف عنده، يكمن في إلغاء الاحتفالات التي كانت مقرّرة للتهليل للانتصار الذي تحقق بإزاحة الحريري عن آخر حكومات العهد. فلماذا وكيف؟
لا يجرؤ المراقبون على رسم خريطة طريق واضحة الى ما يمكن ان يلي هذه المحطة الجديدة التي تأسست على قاعدة اعتذار الحريري وطي صفحة تكليفه يوم الخميس الماضي. وإن كانت الخطوات السياسية لا تحتاج الى من يرصدها، ذلك انّ التجاذبات واضحة، وما أفرزته المواقف التي سبقت الإعتذار رسمت المواقع المتقابلة مبدئياً، مع الإشارة إلى أنّها بقيت بين اهل البيت الواحد ومن ضمن اركان النظام. لكن ما يدفع الى الظن بصعوبة ترقّب المحطات المقبلة يكمن في عدم تقدير الموعد الجديد المتوقع للاستشارات النيابية الملزمة.
وان بقي الرهان معقوداً على إصرار رئيس الجمهورية على ضرورة التفاهم على الشخصية السنّية الذي سيُكلّف المهمة، منعاً لأي صعوبات يمكن ان تقود اليها هذه الاستشارات، ان لم يتحقق الإجماع المطلوب لعبور الاستحقاق في أفضل الظروف، والى الصعوبة التي يواجهها رئيس الجمهورية في تحديد هذا الموعد في وقت قريب، فإنّ اعتكاف الحريري واصراره على عدم مقاربة هذه المرحلة سيزيدان من صعوبة المهمّة، الى درجة اعترف فيها مرجع معني بالاتصالات، انّ الحاجة ماسة الى منجّم ليقدّر الموعد المرتقب، وخصوصاً انّ الايام المقبلة ستعبر في ظل عطلة عيد الاضحى التي ستمتد لثلاثة أيام قبل دخول عطلة نهاية الاسبوع المقبل.
قبل ان يعتذر الحريري بأيام، كانت الاتصالات قد بوشرت على أكثر من صعيد، فإلى تلك التي أطلقها رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل في وقت مبكر، ومعه وسطاء اعتادوا القيام بمثل هذه الأدوار في الكواليس السياسية، فقد تسرّب أنّها شملت عدداً من الشخصيات السنّية، بالإضافة الى الاتصال الشهير الذي حُكي عنه مع الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي. وهي شملت بالإضافة الى النائب فيصل كرامي منذ فترة طويلة، شخصيات اخرى من بينها نواب آخرون سابقون وحاليون، وأكثر من شخصية أكاديمية وإقتصادية.
وان لم تفضِ هذه الاتصالات الى قرار نهائي بفعل الملاحظات والفيتوات المتبادلة بين أكثر من طرف، ولا سيما منها الفيتو الذي وضعه «حزب الله» على ميقاتي وشخصيات أخرى، فقد كشف عن مشاورات اجراها بعض من شملتهم هذه الاتصالات من قِبل اركان العهد بالحريري وأعضاء من نادي رؤساء الحكومات، من اجل استشراف الحظوظ وإمكان نيل ثقة الحريري. وان بقي البعض منها طي الكتمان، فلم يظهر منها الى العلن سوى الاتصالات التي أجراها ميقاتي بالحريري وزملائه في نادي رؤساء الحكومات السابقين، وانتهت الى عدم وجود اي نية بتجاوز السقوف التي رافقت مهمة الحريري.
وقبل ان يتبلغ ميقاتي فيتو «حزب الله» وشخصيات أخرى من الأكثرية، تردّد أمس في أوساط النواب السنّة، عن اتصال أجراه النائب فيصل كرامي قبل ايام بالحريري ولم ينتهِ الى ما اراده. ورغم اعتقاد البعض انّ مثل هذا الاتصال لم يكن ضرورياً، فموقف «بيت الوسط» حاسم في هذا الإتجاه، ولن يكون مثمراً مهما كانت الظروف التي سترافق مثل هذه الخطوة. لكن كرامي ردّ عليها انّ مثل هذه الخطوات كان لا بدّ ان تشمل الحريري، بعدما تداول في ما طرح عليه مع شخصيات عدة. فهو اجرى جولة واسعة بدأها مع رئيس الجمهورية، وزار البطريرك الماروني لهذه الغاية، بالاضافة الى عدد من الشخصيات الديبلوماسية والحزبية والنيابية.
وبعيداً من هذا الإطار، فقد بات واضحاً انّ اعتذار الحريري كان مفاجئاً لبعض اركان الحكم، فقد كانوا يعتقدون انّ حديثه عن الإعتذار سيطول من أجل إنهاك العهد وزرع مزيد من المصاعب في السنة الاخيرة منه، وخصوصاً انّ الانتخابات النيابية المقبلة المقرّرة مبدئياً في بداية الربيع المقبل، ستستهلك البقية منه لينتهي من دون اي انجاز ما زال يمنن النفس واللبنانيين به. ونُقل عن إحدى الشخصيات القريبة من العهد قوله جازماً، انّ تموز وآب سيعبران تحت مظلة التهديد والتهويل بالاعتذار الذي لن يكون نهائياً ومحسوماً قبل نهاية ايلول، لفرض الحديث عن حكومة انتخابات كأمر واقع، على ان يواكبها الحديث عن مواصفات رئيسها واعضائها بأن يكونوا من غير المرشحين للنيابة، لضمان الرضى الدولي عليها وتغيير الصورة السلبية التي رُسمت في الخارج عن إداء أهل الحكم المعرّضين لكل أشكال العقوبات، سواء الاوروبية منها او تلك الاميركية التي اقترب موعد الاعلان عن دفعة منها.
ورغم اعتقاد أهل الحكم أنّ الحديث عن حكومة خالية من المرشحين هو مجرد اضغاث احلام، فهم مستعدون لإبراز قدراتهم الخارقة على تعطيل مثل هذه الشروط، كما عطّلوا المبادرة الفرنسية التي تفكّكت على مراحل وسقطت مقوماتها واحدة بعد أخرى بسلاسة، الى ان بات الحديث عنها وكأنّها من الماضي البعيد، ولا سيما بعد اعتذار الحريري وسقوط التجربة الأقرب الى ما قالت به مبادرة ماكرون، كما تلك التي اطلقها الرئيس نبيه بري، قبل ان يتبين أنّها لم تكن سوى مجرد أفكار متفرقة لا تجمعها صيغة واضحة، واريد لها ان تكون مناسبة لتقطيع الوقت والتلهّي بخطوات واهية، أُريد منها ان تنتهي باعتذار الحريري.
على كل حال، وبعيداً من تناول مختلف ردات الفعل الدولية التي تلاحقت منذ لحظة الاعتذار، فلم يظهر أنّ أهل الحكم يتهيبون لما هو متوقع. فهم وفي الوقت الذي يلهثون بحثاً عن خليفة الحريري، لا يتطلعون بجدّية الى الانهيار المحتمل لتجاوز الدولار الاميركي ارقاماً قياسية، وامكان استجرار الهمّ الامني. فهم مرتاحون الى انشغال اللبنانيين بالبحث عن صفيحة بنزين وعلبة دواء مقطوع وملاحقة الأسعار التي ترتفع جنونياً، استباقاً لاي سعر جديد للعملة الاجنبية، في سباق محموم مع اختفاء كثير مما يريد اللبنانيون اقتناءه.
وتأسيساً على ما تقدّم، لاحظ المراقبون انّ من كانت لديهم النية للاحتفال باعتذار الحريري، احتفظوا بنسبة عالية من الصمت، مخافة ان يزيدوا من حال الاحتقان الذي يمكن ان ينقلب على أصحاب هذه النية. فالحملة الدولية التي انهالت عليهم بمزيد من الانتقادات والاتهامات بجرّ البلد إلى الانهيار الكامل، لم تغيّر في استراتيجيتهم الثابتة. وهو ما يوحي أنّ البلاد دخلت مرحلة غامضة لا يمكن التكهن بأبعد مما ستحمله الساعات المقبلة، في انتظار حدث ما يترقبه كثيرون، من دون القدرة على تقدير حجمه وشكله ونوعه وما يمكن ان يكون.