«لا توحش النفس بخوف الظنون
واغنم من الحاضر أمن اليقين
فقد تساوى في الثرى راحل غدا
وماضى من ألوف السنين»
رباعيات الخيام أحمد رامي
لا يغيب عن بال أحد أنّ قضية جريمة المرفأ لا يمكن أن تختم باتهامات محصورة بكبش محرقة واحد، ولا حتى بأكباش محرقة كثر، لأن القناعة هي في كون القضية مرتبطة في مكان أساسي هو مسرح الجريمة. فالقضية التي ما زلنا ندور ونلف حولها هي لمصلحة مَن تَمّ ّإفراغ وتخزين النيترات في العنبر المشؤوم لمدة 7 سنوات؟ من بعدها يمكن أن نفهم أسباب وكيفية التستر والتآمر وكمية الفساد والجبن التي أدت في النهاية إلى الجريمة. والجريمة هنا يتم وصفها اليوم بأنها جريمة لأنها تسببت بالمذبحة الفظيعة في الرابع من آب الحزين، لكنها توصف بالجريمة الكبرى حتى وإن لم يحصل الانفجار. فمجرد التلاعب والمقامرة بوجود تلك المواد في وسط البشر وبين بيوتهم جريمة موصوفة لوحدها. لكن، بكل موضوعية، إنّ مبدأ المقامرة هو جزء من حياتنا اليومية منذ عقود طويلة، اي من يوم أن أصبح لبنان مجرد مؤونة صغيرة على طاولة لعبة القمار، اعتبر كل مغامر مقامر فيها بأنه يمتلكها لوحده، ويمكن ان يربح من خلالها لوحده، في حين أن الكل يظن أنّ تلك المؤونة التي إسمها البشر والأرض والحجر، ملكه لوحده ليُقامر بها. فمن يمكنه القول إنّ جريمة وضع لبنان وحيداً بديلاً عن العرب والعجم في المواجهة مع إسرائيل، بعد أن استنكف الجميع، ليس جزءاً من لعبة القمار؟ الحقيقة هي أنّ الموت قرب المرفأ وحوله هو ذاته الموت تحت قنابل الأعداء، ولن يتمكن أحد أن يسأل الضحايا عن الفرق بين طعم الموت على يد عدو أو ذاك الذي يأتي على يد صديق أو حليف أو عميل أو فاسد...
ما لي أنا وتلك المقدمات المتشائمة، ولنعد إلى الحاضر، مع أنّ الحاضر ما هو إلا نتاج الماضي، وهو المستقبل أيضاً لكون كل لحظة تصرف أو قرار في الحاضر تعني الآتي وليس الحاضر. فقد تجرأ القاضي في الحاضر على طلب رفع الحصانات والقيام بالاستدعاءات، ونظريّاً على الأقل، فإنّ هذه الاتهامات وطلبات رفع الحصانات لا بد أنها استندت إلى ما وصل إليه القاضي في التحقيقات. لذلك، فمن المنطقي أيضاً أن يعلّل طلب رفع الحصانات والاستدعاءات بما يكفي من المعطيات التي تستوجب القيام بهذا الإجراء. يعني أنه بما أنّ القضاة لهم إجراءاتهم في المحاكمة والتحقيق، فللوزراء والنواب والمدراء أصول يجب اتّباعها حتى لا نصل إلى تضييع العدالة بحكم الدستور. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ القاضي يجب أن يرفق طلب رفع الحصانة بتفاصيل كافية لرفعها، وبالتالي حَشر من بيده رفع الحصانة في الزاوية وإحراجه بناء على المعطيات الموجبة. لكن، رغم كل ذلك، فإنّ الأمر قد لا يتم إن كان مَن بيده القرار يريد أن يُماطل لغاية في نفس يعقوب. هنا سيصبح الحمل مضاعفاً على القاضي النزيه صاحب السلطة المستقلة بأن يكشف ما توصّل إليه إلى العالم. فالجريمة لم يعد بالإمكان تغطيتها بتضييع الفاعل، ولا بحصرها بعامل التلحيم، وفرضية التلحيم بالذات والصور التي نشرت على أساس أنها لعملية التلحيم تفترض اتهاماً لناشرها بمحاولة تضليل التحقيق، أي على نسق شريط أبي عدس الذي افترض تضليل التحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري. قد يقول القاضي انّ عرض المعطيات اللازمة قد يفسد التحقيق، لكن عدم عرضها أيضاً قد يوقف التحقيق، لذلك فلا مفرّ من ذلك في ظل الدستور الحالي.
الواقع هو أنه في مجلس النواب أكثرية ساحقة من الذين لا يريدون وضع وزر هذه الجريمة على ضمائرهم، ولا على حتى ميزان حسناتهم يوم الانتخابات القادمة، إذا افترضنا غياب الضمير. وبالتالي، فإنّ المضي بالطرق الدستورية سيمنع المتحججين بالدستور من الهروب من الحساب. في المحصّلة، إذا وصلنا إلى حد محاولة الهروب من المسؤولية، فما على القاضي إلّا تسريب المعطيات ووضعها أمام الجميع.
النقطة الأساس هي لمصلحة مَن أُنزلت تلك الحمولة المشؤومة في المرفأ؟ ومن بعدها تصبح خيوط التواطؤ والفساد والإكراه واضحة للجميع، وحتى الآن لم نسمع عن ذلك شيئاً سوى بعض الإشاعات والثرثرات.