لم يكن ينقص اللبنانيين سوى الاعلان عن دخول البلاد مدار العتمة الكهربائية الشاملة، لتغلّف العجز الرسمي في مواجهة الأزمات المتناسلة، ويزيد من الغموض الذي يكتنف الحراك الدولي المفاجئ، الذي تقاسمته دول وعواصم أوروبية وخليجية عدة. وفي انتظار معرفة اتجاه الريح، والقدرة على توفير المخارج للأزمة الحكومية والنقدية، لا يمكن أي مرجع ان يقدّم رواية لما هو متوقّع، على رغم الإجماع على انّه اسوأ مما هو قائم؟
لا يخفي مرجع ديبلوماسي مطّلع خوفه وقلقه من حجم التطورات المتسارعة على الساحة اللبنانية، فالتوقعات السلبية تظلّل مختلف الأزمات المتناسلة، في ظلّ غياب المخارج والحلول الممكنة لوقف الانهيارات المتتالية. فبعد سقوط مجموعة المبادرات الداخلية والخارجية لتشكيل الحكومة العتيدة، وما رافقها من سيناريوهات، أمعن من خلالها العجز الرسمي في إهدار الفرص التي كانت متاحة في أكثر من مناسبة، منذ انطلقت المبادرة الفرنسية في ايلول الماضي، نتيجة الشروط والشروط المتبادلة، الى درجة فُقد فيها أي أمل بالتوصل الى قواسم مشتركة تنتج حلاً.
وإن توسّع المرجع الديبلوماسي عندما يُطلب منه الدخول في تفاصيل إضافية، يتحفظ عن الكشف عن كثير مما لا يمكن البوح به اليوم مما شهدته الكواليس السياسية والديبلوماسية، وخصوصاً إن وصل الامر الى الكشف عن المواقف الدقيقة التي تمّ تبادلها في المراحل الحساسة من المفاوضات الهادفة الى البدء بتطبيق المبادرة الفرنسية، حفاظاً على بعض ما زال متوافراً من ثقة ببعض المراجع الرسمية والقامات التي كان اللبنانيون يراهنون على أدوارها، ليتحوّلوا مستهدفين ليس في شخصهم فحسب، إنما في أدوارهم السلطوية والدستورية، مما ينعكس مزيداً من فقدان الثقة بما تبقّى من الدولة ومؤسساتها.
والأخطر، يعترف الديبلوماسي، انّه سعى من خلال حركته الصامتة والمعلنة في آن، من أجل منع الوصول الى ما يشي بالفتنة الداخلية بوجوهها المذهبية والمناطقية التي شغلت المراجع الديبلوماسية أكثر مما اهتم لها المسؤولون اللبنانيون المعنيون المكلّفون المهمّة، بموجب ما يقول به الدستور، بغية إتمام الاستحقاق الدستوري بأفضل الصور وبأقل كلفة سياسية، باتت تُحتسب سلباً على موقع ودور رئيس الجمهورية القوي ورئيس الحكومة العائد الى السرايا الحكومية بمبارزة علنية بينهما، ما أسبغ على المواجهة نوعاً من النزاع الشخصي الذي يخوضه الرجلان مباشرة وبلا خجل او وجل، على رغم تقديرهما للكلفة السياسية الوطنية التي ظهرت بقساوة غير متوقعة على مصير البلاد والعباد.
وعدا عن تعاظم المشكلة الشخصية بين عون والحريري، وما برز من حلف جديد يعزز موقعهما، فقد انهارت كل محاولات التقريب بينهما، ودخلت عناصر جديدة أجّجت من مظاهره وتفاعلاته السلبية، الى ان انعكست شللاً على مختلف المؤسسات الإدارية والخدماتية والإدارية، وصولاً الى احتمال انهيارها. وما الوصول في الأمس الى مرحلة العتمة الكهربائية الشاملة، وتراجع بقية الخدمات في الاتصالات الهاتفية والانترنت والضمان الإجتماعي والمياه، سوى من مظاهر هذه الأزمة التي عجز عن حلّها مختلف الاصدقاء المشتركين الذين يفضّلون الصمت في هذه المرحلة، حفاظاً على مجموعة من الأسرار التي لا يليق الكشف عنها بالمواقع المعنية بها والمستهدفة منها.
وعليه، ارتفع منسوب القلق لدى الديبلوماسيين قبل المعنيين اللبنانيين، الذين يعدّون انفسهم معنيين بالاستحقاق الحكومي، ليس لسبب سوى التمادي بالإخلال بالصلاحيات الدستورية الممنوحة إليهم، وزيادة النقمة الشعبية التي وضعتهم في موقع المتهم الذي عليه ان يتحمّل مسؤولية الذلّ الذي يعيشه اللبنانيون في كل لحظة وفي اكثر من مجال، من الوقوف في صفوف البنزين، الى الساعين الى علبة دواء مفقودة، كما الذين يترصّدون كلفة غلاء المعيشة بما فيها الطاقة المنتجة من المولّدات التي تقض مضاجع الفقراء وذوي الدخل المحدود والمتوسط.
وعلى الرغم من هذه المخاوف التي بقي معظم ما يذكّيها في الكواليس السياسية والديبلوماسية، فإنّ بعضاً مما تسرّب منها الى العلن ولم يتجرأ المعنيون بها على نفيها او تصحيحها، منعاً لاستدراج المطلعين على تفاصيلها من الغوص فيها، حماية لهذا الموقع وتأميناً لمصالح هذا الفريق او ذاك. وبدلاً من احترام ما يضمن مصالح اللبنانيين الآنية والبعيدة المدى، والالتزام بما تعهّدوا به امام الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته جان إيف لودريان وموفدي الاتحاد الأوروبي وعواصم غربية وعربية وخليجية مختلفة، فقد بادروا الى التشكيك بنيات قادة الحراك الاممي، الى درجة توصّل فيها البعض الى القول «باعتزاز» أنّه لا يريد ان يساعدهم في تجاوز ما يعانونه من أزمات في بلدانهم. وكأنّ ما يجري على الساحة اللبنانية قد انعكس سلباً على المجتمعات الفرنسية والاميركية او الخليجية، التي تحوّل بعضها جمعيات انسانية تنظّم قوافل المعونات الطبية والمدرسية والانسانية للشعب اللبناني.
وعليه، وبالعودة الى ما يمكن ان ينتهي اليه الحراك الذي يقوده التفاهم الجديد الاميركي ـ الفرنسي والسعودي، بدفع مباشر وتمنٍ ورجاء من بابا الفاتيكان، فإنّ الجمود على الساحة الداخلية بات ظاهرة مقلقة، وهو ما بدا جلياً في فرملة التحرّكات التي كانت تتحدث عن صيغ وتفاهمات حكومية وسياسية جديدة، قبل ان تطغى الهموم الناجمة عن طلب المحقق العدلي رفع الحصانات النيابية والنقابية والإدارية عن المطلوب الاستماع الى افادتهم والتحقيق معهم في جريمة تفجير المرفأ.
وأمام هذه الصورة الفسيفسائية، يبدو الصمت والعجز الرسمي تجاه ما يجري مثيراً للذعر والخوف، حيث انّ معظم المسؤولين منشغلون في أمور كثيرة، لا تقارب ما يعانيه المواطنون من ذلّ وخوف على لقمة العيش الكريم والمستقبل القاتم، في ظلّ الفشل المتمادي في معالجة معاناة الناس، فيما يتباهون امام محازبيهم ومعهم أزلامهم، بما أنجزوه لمصلحة الحزب او الطائفة او المذهب، من دون احتساب مصير الوطن الذي يجمعهم ويوفّر لهم المظلة الآمنة المهدّدة بالزوال. والأخطر انّهم ضربوا بعرض الحائط ما يحتاجه اللبنانيون من مختلف المذاهب والمناطق، من ابسط حقوقهم والعناية التي يستحقونها، قبل ان يأتي الانفجار الكبير.
وإن استخف البعض، الذي ما زال في مواقع السلطة، باحتمال وقوع الانفجار الكبير، فهو يراهن على انّ المؤسسات العسكرية والأمنية ما زالت تنتظم تحت سقف النظام والسلطة الشرعية، من دون احتساب اي تطور خارجي يمكن ان يقلب الأمور رأساً على عقب، وعلى ما هو ثابت، انّهم لم يلاحظوا الترتيبات الدولية التي بدأت تتحدث تارة عن تعزيز القوات الدولية (اليونيفيل) وتوسيع دورها ومهماتها في اتجاه الحدود والداخل لأهداف انسانية. ولم يلاحظوا انّ السفيرتين الأميركية والفرنسية تبحثان - وفق ما أُعلن حتى الآن - في الرياض، عن سبل مساعدة اللبنانيين لتأمين أبسط الخدمات العامة التي يستحقها الانسان، وما يحتاجه الجيش والمؤسسات الامنية الاخرى، لضمان استقرار البلد في حدّه الأدنى، بعدما نادى الرئيس الفرنسي العالم أجمع بضرورة التدخّل لضمان هذه الحقوق.
ويستنتج المراقبون مما تقدّم، انّ في البلد سلطة فاشلة تقاعست عن القيام بواجباتها، وما زالت تستظل جوع اللبنانيين وضعفهم، وتسرق من اموال المودعين جنى العمر، من دون ان يرف لها جفن او يتجرأ احدهم على اعلان تحمّله المسؤولية عن اي حدث قاد لبنان الى الحال المزرية التي يعيشها مواطنوه.