مخطئ من كان يعتقد انّ خطاباً مماثلاً لخطاب رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب يمكن ان يمرّ على السلك الديبلوماسي، فهم مطلعون على كل شاردة وواردة يمكن ان تكون فاتته. فالخطاب الرسمي لأركان السلطة لم يعد له موقع مهم في الأوساط الديبلوماسية وأروقة المجتمع الدولي، الذي صُمّت آذانه على مضمون مذكراتهم وخطاباتهم، ما لم يُقدموا على ما هو مطلوب وما تعهّدوا به. فكيف يمكن تبرير ذلك؟
إن كان خطاب دياب لم يتغيّر بعد رغم المتغيّرات التي طرأت على الظروف التي تعيشها البلاد، فحال الشكوى من أقطاب الداخل، التي عبّر عنها طوال فترة تولّيه المسؤولية، سحبها في الأمس على الخارج والمجتمع الدولي، محمّلاً اياهما المسؤولية عمّا آلت إليه ظروف البلاد. فهو تجاهل بعبارات ادبية وشعرية مجّها العالم، كل المبادرات الدولية والأممية لمساعدة اللبنانيين على سلوك خريطة الطريق التي رسمتها المبادرة الفرنسية منذ أيلول العام الماضي، لبلوغ مرحلة الإنقاذ والتعافي. كذلك بالنسبة الى المساعدات التي جاءت من كل حدب وصوب، لتجاوز ما تركه انفجار مرفأ بيروت، فيما كان يقف عاجزاً دون لملمة النفايات والردم او ترميم مسكن، عدا عن الفشل في إدارة برامج المساعدات التي أُبعِدت عنها الحكومة ومعها كل المؤسسات والاجهزة الرسمية، بسبب تفشي الفساد وفقدان الثقة بها.
وإن كان دياب في بداية تولّيه مهماته الحكومية، قد شكا المسؤولين الذين قوّضوا حكومته بعد الانفجار بأيام قليلة، وأجبروه على الإستقالة، في اعتباره أضعف حلقات «المجموعة السلطوية» التي يمكن التضحية بها على مذبح «نكبة بيروت»، فإنّه لم ينجح في تحقيق أي خطوة قالت بها حكومة «مواجهة التحدّيات» منذ تشكيلها. فبقيت النفايات في الشوارع، وتعاظمت أزمة الطاقة والمشتقات النفطية، ولم تنجح عشرات اللجان التي شُكّلت في أي خطوة ادارية او مالية، ولم يستطع التوصل الى مشروع لـ «الكابيتال كونترول» ولا في تحديد خسائر القطاع المصرفي ومصرف لبنان، فشنّ حروبه على القيادات المالية والمصرفية، قبل ان يضطر إلى الجلوس معها من اجل ضمان إبقاء خطط الدعم الفاشلة التي طيّرت ما تبقّى من مليارات في حسابات مصرف لبنان المركزي. وكل ذلك جرى بعدما اعتبر وقف دفع قيمة سندات اليوروبوند وما رتبته من الديون الخارجية في بداية آذار العام الماضي «انجازاً ما بعده إنجاز»، ليفتح الطريق واسعاً الى ما نعيشه اليوم من حصار مالي وتهديد جدّي بعزل لبنان عن النظام المصرفي العالمي، ودفع إلى انهيار الليرة اللبنانية، الى مرحلة باتت تهدّد وحدة الدولة والكيان والمؤسسات، بعدما عطّلت قسماً منها وشلّت ابسط الخدمات العامة من كهرباء وماء ودواء.
وعلى وقع اصراره على تصريف الاعمال بأضيق الحدود التي لا يجاريه احد في مدى تطبيقها، فهو يتفرج على الأزمات تتوالى من دون أي حراك. ولم يُظهر اي تجاوب مع مجموعة التمنيات والنصائح التي قالت بضرورة ان تقوم الحكومة بمهماتها، تجاه أوضاع استثنائية لم تعرفها البلاد من قبل، فإنّه ما زال يعمل على القطعة، إلى ان أطلق اتهاماته أمس في اتجاه المجتمع الدولي، معتمداً خطاباً يتجاهل الأسباب التي دفعت العالم بأجمعه الى مقاطعة السلطة بكل مواقعها. وجاء اتهامه لهذا المجتمع بالحصار المطبق على لبنان واللبنانيين في أسوأ توقيت كان يجب ان يتنبّه الى خطورته. فهو أطلّ في اليوم التالي لخطاب الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، مستنسخاً عنه تفسيرات تتجاهل ما قام به المجتمع الدولي وما زال، من أجل الحفاظ على الحدّ الادنى من مقومات العيش في البلاد، وليس أقلّها دعم الجيش اللبناني الذي فقد القدرة التمويلية لضباطه وجنوده، فعوّضتها ورش الدعم والمؤتمرات الدولية والمساعدات التي وصلت من أكثر من دولة عربية وغربية.
قد يقول قائل، انّ تحميل المسؤولية لدياب وحده في كل ما جرى، يحمل كثيراً من الظلم. فالمسؤولية نسبية، وهو أحد أركان السلطة التي لم تنجح في مواجهة اي أزمة من أزمات البلاد، وهي تتمادى في انكار الحقائق التي أدّت بالانهيار المحقق في بعض القطاعات نتيجة سياسات جعلت لبنان في عين العاصفة، وسمحت ان يكون مصطفاً في محور لا يجني منه اللبنانيون سوى أشكال العقوبات المختلفة والحصار المضروب والإهمال الدولي. فلبنان الذي كان مدعواً من المجتمع الدولي وأصدقاء لبنان الى تجنّب الانخراط في حروب الآخرين والنأي بنفسه عن النزاعات الاقليمية والدولية الكبرى، انساق اهل الحكم عكس ما هو مطلوب منهم. فمنذ تشكيل الحكومة الاخيرة، انخرط الجميع في هذا المحور. ولم يكتفوا بذلك، فسلّموا امرهم أخيراً من اجل تشكيل الحكومة وتوفير الحصص المطلوبة من الحقائب إلى «حزب الله»، ليرتضوا بما يرتضيه امينه العام. كما من اجل توفير المخرج الذي يتجاوز ما قالت به المبادرة الفرنسية من المواصفات المطلوبة بالحكومة العتيدة، لتستعيد الثقة الخارجية والداخلية معاً، وبقي المعنيون من أهل السلطة اسرى البحث عن الحقائب التي تضمن مصالحهم والاحتفاظ بما تبقّى من المغانم المفقودة.
هذا غيض من فيض الآراء المتداولة في الصالونات الديبلوماسية. ولم يكن ينقص ليطفح الكيل بالديبلوماسيين المعتمدين في لبنان، وتحديداً ممثلي مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، أكثر مما حمله خطاب دياب امس الاول، من تجنٍ على المجتمع الدولي، وخصوصاً عندما تجاهل العون الدولي الذي ناله لبنان، تعويضاً عن العجز المتمادي في كل القطاعات الحيوية والحياتية، من طبية واستشفائية وبيئية وتربوية وصحية واجتماعية، والتي لم تكن لتتوافر للمنكوبين بعد مسلسل هزات إنفجار المرفأ وتداعيات جائحة كورونا والإنهيار المالي، في ظل الفشل الرسمي في إدارة المرحلة وتأمين الطريق المؤدي الى التعافي.
على كل حال، فقد كان الردّ الذي تولّته السفيرة الفرنسية آن غريو ونظيرتها الأميركية دوروثي شيا ومعهما مجموعة من السفراء العرب، بجرأة متناهية، ليتجاوز شخص رئيس الحكومة وليشكّل إدانة لأهل السلطة بكاملها بلا استثناء، بما فيها المؤسسات الدستورية التي قصّرت في تأدية واجباتها تجاه اللبنانيين، ومن أجل فك أسر التشكيلة الحكومية لترى النور.
وفي الخلاصة، لا يخفي اصدقاء رئيس حكومة تصريف الأعمال عند الدفاع عنه، قلقهم من بعض الأخطاء المرتكبة، ومن بينها انّه كان عليه ان يعرف الى من يتوجّه في خطابه. فهو في الأمس كان يخاطب اللبنانيين العاجزين عن فهم ما يجري في لبنان، وليس السفراء الذين يعرفون «البئر وغطاه»، ولا يمكنهم السكوت على الفشل المتمادي في ادارة شؤون البلاد والعباد، ويعرفون الخفايا على حقيقتها من دون أي تلوينة يريد ان يعطيها البعض، او ابتداع اي سيناريو يخفي عوراتهم.