توقف استيراد الأدوية بشكل كامل منذ أشهر، وبالتالي، صار معروفاً انّ مخزون مئات الأصناف الدوائية التي تعالج أمراضاً مزمنة ومستعصية قد نفد في لبنان، بما يعني انّ الكارثة قد حلّت، وستتفاقم اكثر في الايام القليلة المقبلة. انّها المأساة التي سمحت بتنشيط تجارة الشنطة من تركيا.
بما انّ السلعة الوحيدة التي لا يمكن الاستغناء عنها او الاستعاضة عنها بشيء آخر، هي الدواء، فإنّ اللبنانيين فقراء كانوا أم أغنياء، باتوا «يشحدون» الادوية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من دول أخرى أو أقارب وأصدقاء او حتّى غرباء، لأنّه عندما تهدّد أزمة انقطاع الادوية، صحة وحياة المرضى، فلا كبرياء ولا كرامة ولا مال، يمكن ان تمنع أي مواطن من استغلال أي فرصة لتأمين دواء لمريضه، مهما كان الثمن او الوسيلة.
وبما انّ استيراد الادوية متوقف بشكل كامل منذ أشهر، وبما انّ مخزون مئات الأصناف الدوائية التي تعالج أمراضاً مزمنة ومستعصية قد نفد في لبنان، فإنّ الأزمة اليوم كارثية وستتفاقم اكثر مع نهاية شهر تموز الحالي، وفقاً لنقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة، الذي صرّح انّ آلاف المرضى سيُحرمون من أدوية علاجهم.
هذا الامر أدّى الى ازدهار تجارة جديدة، تتمثل بتأمين الادوية الى لبنان من الدول المجاورة بالحقائب، خصوصاً من تركيا، التي تعدّ أسعار الادوية فيها مماثلة تقريباً لسعر الدواء المدعوم في لبنان، وذلك بإضافة 3 دولارات fresh على كلّ دواء. هذا بالاضافة الى آلاف عبوات الادوية التي يتمّ تأمينها من قِبل المغتربين وجميع الوافدين الى لبنان، والذين باتت حقائبهم تحوي على عبوات أدوية أكثر من أغراضهم الشخصية.
ورغم انّه تمّ الاتفاق الاسبوع الماضي في قصر بعبدا بين رئيس الجمهورية ورئيس حكومة تصريف الاعمال وحاكم مصرف لبنان ووزيري الصحة والمالية على الاستمرار في سياسة دعم الدواء والمستلزمات الطبية، ضمن آلية تطبيقية تلحظ الأولوية المحدّدة من وزارة الصحة العامة، ورغم انّ مصرف لبنان اكّد استعداده لدعم استيراد الادوية شرط خفض الفاتورة من حوالى مليار دولار الى 400 مليون دولار سنوياً، إلّا انّ الأزمة ما زالت على حالها، ولم يتمّ توقيع اعتمادات جديدة للاستيراد، ولم تحصل الشركات المستوردة على مستحقاتها المتراكمة التي تجاوزت 600 مليون دولار، رغم انّ وزارة الصحة سلّمت البنك المركزي لائحة الاولويات.
في المقابل، ورغم انّ السقف المحدّد للدعم من قِبل البنك المركزي هو 400 مليون دولار، أعلن وزير الصحة أن لا رفع للدعم عن الدواء ولا ترشيد، بل هناك تفنيد للأولويات وفق لوائح يوقّع عليها مكتب وزير الصحة العامة، بناء على معطيات ميدانية يتمّ تحديدها وفق حاجة السوق من الدواء والمواصفات المطلوبة، وهي تقلّص الفاتورة الدوائية الشهرية من 100 مليون دولار إلى 60 أو 65 مليوناً، أي حوالى 780 مليون دولار سنوياً، وهو رقم لا يتطابق مع السقف المحدّد من قِبل مصرف لبنان.
وقد اوضح جبارة لـ «الجمهورية»، انّ المشكلة لا تتعلق اليوم فقط بالسقف الذي سيحدّده مصرف لبنان لترشيد استيراد الادوية في المرحلة المقبلة، وانما بمستحقات الشركات المستوردة والبالغة منذ كانون الاول الماضي لغاية اليوم اكثر من 600 مليون دولار. وبالتالي، في حال عدم تسديد تلك المستحقات، فإنّ الشركات غير مستعدة للاستيراد من جديد.
وسأل جبارة: «كيف يتمّ فتح الاعتمادات لبواخر المحروقات التي ترفض التفريغ، ولا تتمّ معالجة مستحقات مستوردي الادوية الذين وثقوا بوعود السلطة وباعوا المخزون على السعر المدعوم؟».
المركزي يعد ولا ينفّذ؟
في هذا الاطار، صرّح النائب بلال عبدالله، انّ «الدواء هو قبل الخبز والبنزين والكهرباء. الأمن الدوائي في خطر بسبب ضياع الجهة المسؤولة عن الأزمة. الحكومة المستقيلة تتهرّب من ترشيد الدعم للسلع، ومنها الأدوية. المصرف المركزي يعد ولا ينفّذ، ويتهرّب من إعطاء الأرقام، شركات الأدوية تتعاطى بنفس الآليات والمعايير، وكأنّ البلد بألف خير».
واوضح عبدالله لـ»الجمهورية»، انّه لم يتمّ فتح اعتمادات جديدة للاستيراد لغاية اليوم، بسبب عدم وجود حكومة تقرّ سياسة واضحة لترشيد دعم الدواء، وقد حاولت وزارة الصحة مراراً وضع خطة ترشيد وفق الاولويات، وقد توصلت الى اتفاق خلال اجتماع بعبدا الاخير بين وزير الصحة وحاكم مصرف لبنان على خفض فاتورة الاستيراد الى 50 مليون دولار شهرياً، بعدما كان الحديث عن 70 مليون دولار شهرياً.
واعتبر انّ الالتزام الجدّي بين كافة المعنيّين حول خطة الإنفاق غير موجود، مشكّكاً في امكانية التزام مصرف لبنان في تأمين الاموال، أي الـ50 مليون دولار شهرياً في حال تمّ وضع سياسة واضحة لاستيراد الاولويات فقط وفقاً للسقف المحدّد.
ولفت عبدالله الى انّ الشركات المستوردة تريد ان تضمن حصولها على مستحقاتها لدى مصرف لبنان لتسديد مستحقاتها لشركات الادوية في الخارج وضمان استمرارية الاستيراد.
وختم: «أزمة الدواء كغيرها من الأزمات، هي كرة جمر يتهرّب الجميع من تحمّل مسؤوليتها. لا الحكومة تريد اتخاذ القرار المناسب ولا مصرف لبنان يريد تحمّل المسؤولية، بينما ترفض الشركات المستوردة تحمّل مخاطر الإفراج عن مخزونها من دون وجود ضمانة بأنّ مصرف لبنان سيسدّد مستحقاتها. وفي خضمّ هذه الأزمة، لا احد يسعى الى ضبط التهريب. وبالتالي، فإنّ الأزمة متجّهة من سيئ الى أسوأ».
«شو ناطرين؟»
وفي هذا السياق، غرّد وزير الصناعة في حكومة تصريف الأعمال عماد حب الله قائلاً: «للمرة الألف: في غياب الترشيد، الحاجة فورية إلى رفع الدعم عن أي سلعة لها انتاج وطني بديل، ولنوقف الدعم فوراً عن استيراد أي دواء له مثيل أو بديل وطني. الصناعة اللبنانية ممتازة. أي تأخير ضرب للصناعة الوطنية وهدر لأموال المودعين وإهمال أو ارتهان للمافيات ورهن لمستقبل اللبنانيين. شو ناطرين؟».
إنفجار الصيدليات قريب
وفي سياق متصل، أكّد نقيب الصيادلة غسان الأمين، أنّ «الإنفجار قريب في موضوع الصيدليات، لأنّه وصل الى المرحلة الأخيرة»، لافتاً إلى أنّ «80% من الصيدليات التي لم تقفل لم يعد بإمكانها التحمّل».
وشدّد على أنّ «نقابة الصيادلة ترفع الصوت وليست السلطة التنفيذية، معتبراً أنّ الأمور لا تُعالج بطريقة عادلة، على الدولة أن تستمر بدعم الدواء». وأوضح الأمين أنّ «المطلوب فصل موضوع جعالة الصيدلي عن سعر الدواء»، مشيراً إلى أنّ «الأزمة سياسية بإمتياز، ووزارة الصحة تحدّد الأولويات في موضوع الدواء».
ولفت الى «ضرورة معرفة المبلغ الحقيقي للإحتياط الموجود في مصرف لبنان»، مشدّداً على أنّه «يجب أن ننجح في موضوع الأولويات ولا بدّ من مواجهة الأمر الواقع بحكمة».