الرسالة الأساسية التي أراد البابا فرنسيس توجيهها من اللقاء الذي دعا إليه بعنوان «يوم التأمل والصلاة من اجل لبنان»، وبمشاركة 10 من قادة مختلف الطوائف المسيحية في لبنان، انّ الملف اللبناني أصبح أولوية فاتيكانية. وضع البابا فرنسيس الملف اللبناني في صدارة اهتماماته بعدما لمس انّ عدم التدخُّل المباشر للفاتيكان من أجل إنهاء الأزمة اللبنانية سيُفضي إلى زوال آخر بقعة مسيحية وازنة في الشرق الأوسط ومهد المسيح، فيفقد لبنان ميزته التعددية ورسالته في العيش معاً، خصوصاً انّ الانهيار الذي يشهده لبنان ويطال كل جوانب حياة اللبنانيين غير مسبوق في وقعه وشكله ومضمونه وتأثيره وانعكاساته وما يمكن ان يترتّب عليه من تغيير وجه هذا البلد ودوره وطبيعته.
وقد حظي لبنان دوماً باهتمام الفاتيكان الذي لا يمكن التقليل من دوره في إخراج المسيحيين من إحباطهم بعد انتهاء الحرب اللبنانية وتسليم القرار اللبناني للنظام السوري، حيث حثّهم على عدم الاستقالة من الشأن العام وتحمُّل مسؤولياتهم والتحلي بالأمل والرجاء وخَصّصهم بسينودس خاص بهدف مزدوج: تسليط الضوء الدولي على القضية اللبنانية، وإعادة الحيوية للجسم المسيحي عن طريق الانخراط في نقاشات ولجان ولقاءات ترمي في نهاية المطاف إلى خلعهم رداء الإحباط واستعادتهم لتألقهم والثقة بأنفسهم.
وصحيح انّ الفاتيكان لا يملك دبابات ربطاً بالمقولة الستالينية التاريخية، كونه غير مؤمن بالعنف لحلّ الأزمات، ولكنه قادر بإيمانه وتصميمه وكلامه على تغيير وجه العالم، وساهم مساهمة أساسية في إسقاط المنظومة الشيوعية، ومن الخطأ التقليل من تأثيره المعنوي الكبير على عواصم القرار الغربية التي تأخذ دوماً تمنيات الفاتيكان وتوجهاته في الاعتبار.
وعلى رغم التقاطع الدولي في الآونة الأخيرة على وضع مسؤولية الأزمة اللبنانية على المسؤولين اللبنانيين الرسميين، إلا انّ سوء إدارة الدولة هو وجه من وجوه هذه الأزمة التي لها أبعاد أخرى لا تقل خطورة، ولكن يبدو ان هذا التقاطع على التوصيف المشترك أشبه بكلمة سر دولية تشكل مدخلا لمعالجة هذه الأزمة من الباب اللبناني بدلاً من وضعها في إطارها الإقليمي.
وقد برز في هذا السياق 3 مواقف دولية في مضمون واحد يضع المسؤولية على سوء إدارة الدولة:
اللقاء الأول عقد بين وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان ونظيره الاميركي انطوني بلينكن في باريس، وقد صرّح الأول قائلاً: «قررنا التعاون مع الولايات المتحدة بخصوص أزمة لبنان ونعرف من هم الذين يتسببون بالأزمة، وسنمارس الضغوط على السياسيين اللبنانيين لإنهاء المأساة التي تعيشها بلادهم»، فيما قال الثاني: «نبحث عن قيادة حقيقة في لبنان لمساعدته ويجب ممارسة المزيد من الضغوط على المسؤولين اللبنانيين».
واللقاء الثاني جمع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بنظيريه السعودي الأمير فيصل بن فرحان والفرنسي جان إيف لودريان على هامش اجتماع وزراء خارجية مجموعة الـ20 المنعقد في مدينة ماتيرا الإيطالية، وقال بلينكن: «أجريتُ مناقشة مهمة مع نظيري السعودي والفرنسي حول ضرورة أن يُظهر القادة السياسيون في لبنان قيادتهم الحقيقية من خلال تنفيذ الإصلاحات التي طال انتظارها لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوفير الإغاثة التي يحتاجها الشعب اللبناني بشدة».
واللقاء الثالث عقد في الفاتيكان بدعوة من البابا فرنسيس لـ10 قادة روحيين مسيحيين من أجل السلام والاستقرار ومستقبل أكثر هدوءاً في لبنان، ولم يتردد قداسته في تأنيب حكام لبنان ومسؤوليه لتغليب مصلحتهم الخاصة على مصلحة بلدهم، وشدّد على وجود عدم ترك لبنان «لمصيره تحت رحمة هؤلاء الذي يسعون بدون ضمير إلى مصالحهم الشخصية»، معبّراً عن قلقه الشديد «لرؤية لبنان الذي أحمله في قلبي ولدي الرغبة في زيارته، يتجه بسرعة إلى أزمة خطرة».
فاللغة المستخدمة في هذه العيِّنة من المواقف تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن بعضها وكأنها صادرة عن جهة واحدة لا 3 جهات، وهذا ما لا يحصل بالصدفة، إنما ينمّ عن توجُّه دولي لولوج الأزمة اللبنانية من باب المسؤولية اللبنانية لا الإيرانية، وبمعزل عن هذا التوصيف والتشخيص لهذه الأزمة، إلا انّ الأساس يبقى في عودة الاهتمام الدولي بلبنان تلبية لدعوة الفاتيكان، واللقاءات التي سبقت انعقاد المؤتمر الفاتيكاني تندرج في سياق ملاقاة البابا الذي لن يتراجع قبل إعادة الاستقرار السيادي إلى الربوع اللبنانية.
وفي الوقت الذي كان يحظى الملف اللبناني باهتمام باريس حصراً، يلاحظ عودة أميركية قوية إلى هذا الملف بعد ان أمسكت الإدارة الأميركية بكل ملفاتها، ووضعت المسار النووي مع طهران على سكة التفاوض، ويشكل اللقاء الثلاثي الأميركي والفرنسي والسعودي رسالة مهمة نظراً لدور هذا الثلاثي وتأثيره اللبناني، واشنطن لجهة كونها صاحبة القرار على المستوى الدولي، وباريس باعتبارها مفوّضة أميركياً لإدارة الحلّ اللبناني، والرياض لتأثيرها الفعلي والمعنوي داخل البيئة اللبنانية عموماً والسنية خصوصاً، فضلاً عن دورها الأساسي على مستوى المنطقة.
وينطلق الفاتيكان مِن معطى أساس وهو ان حلّ الأزمة اللبنانية غير ممكن بتسوية لبنانية-لبنانية، بدليل انّ التسوية التي تمّت في اتفاق الطائف لم تنه هذه الأزمة التي تحولّت من داخلية إلى خارجية، وان المدخل الوحيد لحلها يكمن في التدخُّل الدولي مع طهران من أجل رفع يدها عن لبنان، وما لم يتحوّل الملف اللبناني إلى بند أساسي على جدول أعمال المفاوضات الدولية مع إيران، فلا أمل بإنهاء معاناة اللبنانيين، ويبدو انّ القرار قد اتخذ بوضع لبنان على جدول أولويات الفاتيكان والمجتمع الدولي، ما يعني انّ العد التنازلي للأزمة اللبنانية قد انطلق، وهذا لا يعني ان الحلّ سيكون غداً، إنما يعني ان المجتمع الدولي اتفق على التشخيص وقرر المبادرة في هذا الاتجاه.
وإذا كان المشترك بين مرحلة ما قبل انتهاء الحرب اللبنانية وما بعدها هو غياب الدولة، إلا انّ المُختلف بين المرحلتين انه في الأولى كان الانقسام بين اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، وتمّت تسويته في اتفاق الطائف، فيما في الثانية أصبح القرار اللبناني في دمشق قبل ان ينتقل إلى طهران، وقد أيقن المجتمع الدولي ان إخراج الجيش السوري من لبنان غير كافٍ لحلّ الأزمة اللبنانية، لأن سبب الأزمة ما زال نفسه وهو مصادرة قرار الدولة من المحور نفسه.
ويختلف الخلاف مع «حزب الله» عن الخلاف المسيحي-الإسلامي ما قبل اتفاق الطائف، وجوهر هذا الاختلاف يكمن في ان الحزب ليس مكوناً لبنانياً بالمعنى السياسي، لا الهوية، الدقيق للكلمة على غرار المكونات المسيحية والاسلامية التي انقسمت على معنى لبنان واختلفت على المشاركة في السلطة، لأنّ الحزب في نهاية المطاف هو حالة ثورية إيرانية هدفها نشر العقيدة الإيرانية، ما يعني انّ كل منطلقاته الفكرية ومرتكزات قوته المادية والعسكرية هي إيرانية، الأمر الذي يعني ان الكلام عن حوار لبناني-لبناني هو مضيعة للوقت، وان الحلّ الوحيد يكمن في الضغط على طهران لتغيير دورها على مستوى المنطقة او أقله الخضوع او التجاوب مع الضغوط الدولية لتغيير دور «حزب الله» حصراً، ويكفي ان تطلب طهران من الحزب ان يسلِّم سلاحه ويلتزم بالدستور والدولة من أجل ان يقوم بذلك فوراً.
فالفارق إذاً بين الخلاف بين اللبنانيين في زمن مضى وخلافهم اليوم، انّ الخلاف الأول كان من طبيعة لبنانية حتى لو استدعى تدخلات خارجية، فيما الخلاف الثاني مردّه إلى تنفيذ حزب لبناني أجندة دولته المنشأ، وخلافاً لما يعتقده البعض، فإنّ حلّ المشكلة الثانية أسهل من الأولى كونها ليست مشكلة داخلية، إنما مردها إلى قرار خارجي، ويكفي ان يقوم المجتمع الدولي بدوره في الضغط على إيران وتخييرها بين رفع العقوبات ورفع يدها عن لبنان حتى تَنصاع في نهاية المطاف.
الفاتيكان بادر وقرر واضعاً يده على الجرح: لا حلّ للأزمة اللبنانية سوى بإعلان حياد لبنان، والدينامية التي أطلقها ستبدأ فصولها بالظهور والترجمة تباعاً وتباعاً.