تجزم مراجع ديبلوماسية وسياسية، في انّ درجة فقدان الثقة بأركان السلطة في لبنان اقتربت من ذروتها لدى المجتمع الدولي. فمعظم التعهدات التي قُطعت في الفترة الاخيرة تبخّرت وزرعت مزيداً من الشكوك في صدقيتهم لدى الموفدين الدوليين والأممين، الى درجة توقّع المراقبون إقتراب انتهاء المهلة المعطاة لهم قبل التصرّف. فالرهان على خطوات تضع حداً للانهيار لم يعد مجدياً. فلماذا؟
لم يكن صعباً على المتابعين تفاصيل كثير مما هو مطروح في الكواليس السياسية والديبلوماسية من مخارج لمجموعة الأزمات المتنامية في لبنان، ترقّب ردّات الفعل الدولية تجاه ما يشهده لبنان وخصوصاً لدى مجموعة الدعم الدولية من اجل لبنان التي أُنشئت منذ أيلول العام 2013 ، عدا عن الإهتمام الفرنسي الذي قفز الى الواجهة منذ انفجار الرابع من آب الماضي والدعم الأوروبي الذي لقيته مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، قبل ان تنال دعماً بريطانياً واميركياً في الفترة الماضية، فالدعم المصري المباشر ومعه بعض عواصم دول الخليج العربي، الذي جاءت به الديبلوماسية الفرنسية الناشطة، قبل ان يضمّ البابا فرنسيس جهوده الى الحراك الدولي.
على وقع هذه المعادلة، التي لم تعد تخضع للنقاش في زوايا عدة مما هو مطروح في الاندية الدولية والاممية، بقدر ما باتت ثابتة وواضحة، جاءت سلسلة النشاطات الاخيرة والاجتماعات التي عُقدت على هامش المؤتمرات الدولية والاقليمية التي شهدتها باريس وروما، وما شهدته حاضرة الفاتيكان قبيل يوم «الصلاة والتأمّل من اجل لبنان»، وما انتهى اليه اليوم الفاتيكاني من بوادر تحرّك جدّي غير مسبوق.
وعلى هامش النقاش حول ما هو متوقّع من مسلسل هذه التحرّكات، بقي الرهان على مدى تجاوب أركان السلطة في لبنان مع ما هو مطلوب من كل هؤلاء المتعاطين بالملف، بمبادرات منهم او بطلب وتمنٍ لبنانيين على حدّ سواء. فاللغة الموحّدة التي استُخدمت في مختلف هذه اللقاءات كانت ظاهرة للعيان، بعدما استنسخت سلسلة التوصيات التي أطلقتها مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منذ الكشف عنها في زيارته الثانية لبيروت في ذكرى المئوية الاولى لإعلان «دولة لبنان الكبير» في الأول والثاني من ايلول الماضي، بعد الزيارة الاولى 6 آب إثر انفجار المرفأ بيومين. وهذه المبادرة قالت بتأليف حكومة مهمة وحيادية و»سلطة حقيقية» تحظى بثقة اللبنانيين وتعترف بحجم الأزمات المتناسلة والمتمادية، وتقود الإصلاح المطلوب في لبنان لاستعادة الثقة الداخلية والخارجية به كدولة قادرة على النهوض بمسؤولياتها امام حاجات مواطنيها على كل صعيد.
لم يكن خافياً على احد، أنّ التأييد اللبناني العلني للمبادرة الفرنسية بنسبة 90 % بما فيها خريطة الطريق التي شدّدت عليها بمختلف محطاتها التي قالت بها للأشهر الستة التي تلتها، قد ثبت عقمه لدى اركان السلطة المكلّفين ادارة البلاد والعباد بالنسبة عينها. ومن يراقب مجموعة الخيارات السلبية المتنافرة التي توالت فصولها، يكتشف كيف أدّت الى تفكيكها بمراحلها المقرّرة واحدة بعد أخرى. فما كان مطروحاً ان يُنفّذ في بداية الخريف الماضي ما زال يترنّح رغم مرور 10 أشهر على جدول أعمال أصحاب المساعي الحميدة التي فشلت حتى الآن في تأليف الحكومة التي عُدّت من اولى الخطوات الإلزامية التي ارتضاها رواد طاولة قصر الصنوبر المستديرة.
وإثباتاً لذلك، فإنّ كل الحراك الدولي الذي انطلق بزخم لافت منذ الجمعة الماضي لم يحقق أهدافه بعد. فبعد الجهود الفرنسية المتواصلة بلا انقطاع على مدى الأشهر العشرة الماضية، والزيارة التي قام بها الممثل الاعلى للاتحاد الاوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، جاء اللقاء الجمعة الماضي بين وزيري خارجية فرنسا جان ايف لودريان، والاميركي انتوني بلينكن في باريس، ليطلق تحذيرات جديدة ومباشرة. وتلاه اللقاء الذي جمع بلينكن بالبابا فرنسيس في الفاتيكان الإثنين الفائت، ومن بعده اللقاء الثلاثي في إيطاليا بين بلينكن ولودريان الفرنسي ونظيرهما السعودي الامير فيصل بن فرحان، وما رافقه من بيانات تحذيرية، تلاقت على ما بات من الأمور الثانوية في اهتمامات أهل السلطة. وإن أحصى المراقبون مجموعة المواقف التي التقى حولها الحراك الدولي، وما هو مطلوب من اللبنانيين قبل ان يلقوا الدعم الدولي، فإنّ اركان السلطة منغمسون في البحث عن جنس الملائكة، ويتجاهلون مساعي التأليف ويبحثون عن حقوق ومصالح شخصية وآنية، مهما اعطوها صبغة وطنية او طائفية لم تعد تقنع أحداً.
وعلى الرغم من وضوح ما هو مطلوب من أركان السلطة تدريجاً لإطلاق المساعي الى مرحلة التعافي والإنقاذ، فإنّهم على العكس يمعنون في بناء جدران القطيعة في ما بينهم ورفعها إلى درجة الاستحالة في تجاوزها. ولذلك فقد بات كل شيء يحول دون قيام التعاون المرغوب به بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري، الى ان تحوّل أمراً مستحيلاً. وإن انسحبت المواقف المعلنة على العلاقات الواجب قيامها بين بقية السلطات، فإنّ التعاون بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه بري بات امراً نادر الحصول بينهما، ودون ما هو المطلوب في حدّه الادنى، وهو تعاون بات محصوراً ببوابة اجبارية لا يمتلك مفتاحها سوى ما ينتج من مبادرة الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي احيا مساعيه بتمنٍ من رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي إئتمنه على مخرج للأزمة الحكومية، وكل هذه المساعي لم تحرّك بعد الجمود في عملية التأليف.
وعليه، لم تعد الامور رهناً بالبحث عن آلية تؤدي الى تحديد هوية الوزيرين المسيحيين المختلف عليهما، ان نجح باسيل في ضرب صيغة الـ (8+8+8) بدلاً مما كان مطروحاً، والتي طُرحت بعد سقوط صيغة الـ (6+6+6)، وبات الحديث عن إعتذار الرئيس المكلّف متقدّماً على بقية المخارج المطروحة، وهي خطوة قد تتجاوز في كلفتها اي صيغة اخرى يمكن ان تقود الى التأليف المستحيل.
عند هذه الحدود، تتوقف المراجع الديبلوماسية والسياسية في قراءتها للمعادلة التي تحكم المرحلة، وهي تتجّه الى نعي المحاولات الداخلية الجارية لتوليد الحكومة، ما لم تبرز خطوات عملية في الأيام المقبلة. وعندها سيبقى الرهان معقوداً على مبادرة تتخذها الأسرة الدولية المهتمة بالملف، بضغوط بمبادرة منها او باقتراحات مباشرة من بابا الفاتيكان. وطالما انّهم ما زالوا ينتظرون خطوات لبنانية «فذّة»، فإنّ الامر سيطول بهم. ولذلك قيل انّ هناك مهلة محدّدة امام اركان السلطة للإقدام على ما هو مطلوب قبل فوات الاوان، ومن ان تتقّدم المراجع الدولية للإمساك بزمام الامور لتأمين متطلبات العيش في البلاد، وهو أمر قد يجبر المجتمع الدولي على المبادرة تحت أي غطاء دولي او اممي محتمل. فهل سينتظر لبنان كثيراً ليتحقق ذلك؟ ام انّ مثل هذه الخطوات باتت قاب قوسين او أدنى من حصولها؟
رغم كل النداءات الدولية لتشكيل حكومة لاستدراج الدعم الدولي ما زال اركان السلطة يناقشون في جنس الملائكة