يجيد حزب الله إنتاج الأزمات، ويجيد بنحو أقوى التهرب من تبعات وآثار هذه الأزمات، والتنصل من مسؤوليته، والظهور بمظهر المُخلِّص والملاذ الأخير للبلد.
في بديهيات السياسة، يحين يحصل فشل أو كارثة مثلما هو الحال في لبنان، فإن أهل الحكم هم الجهة الأولى التي يجب أن تُسائل أو تُحاسب أو تُعاقب. أو لنقل ولو بالحد الأدنى، الإعلان الصريح بالفشل، والمجاهرة بأن تركيبة الحكم والسلطة التي أمسكت بمقدرات البلد وتدير دفته الآن هي تركيبة كارثية آن أوان رحيلها أو تنحيها، والبدء في إنشاء تركيبة جديدة، وإدخال عناصر وجهات أكثر كفاءة وصدقية.
ينسى حزب الله وربما يتناسى، أنه هو الراعي الأول لتركيبة الحكم القائمة، بعد أن خاص معركته الانتخابية وضمن لنفسه مع حلفاءه الأكثرية النيابية، وبعد أن فرض ميشال عون رئيساً للجمهورية خارج كل عرف سياسي وكل تأويل منطقي للدستور، وبعد أن كان عراب التركيبات الحكومية الأخيرة: حكومتي سعد الحريري وحسان دياب. هي تركيبة لم يتردد الحزب في الدفاع عنها ورفع سبابة القمع وحتى الإبادة في وجه من دعا إلى إسقاطها. كان هذا جلياً في دفاعه الشرس عن منظومة الحكم وحملة التخوين التي خاضها ضد الحراك الشعبي العارم الذي أراد إسقاطها وتغييرها. كانت رسالة الحزب للحراك الشعبي: نفهم هواجسكم لكن تركيبة الحكم القائم خط أحمر، وسقفكم الأعلى هو الاحتجاج ولا تتوقعوا أي تغيير.
يريد الحزب إبقاء اليد العليا والاحتفاظ بالكلمة الأخيرة في كل ترتيب أو هيكلية حكم أو قرار سياسي، ويعمد في الوقت نفسه إلى التنصل من التبعات الكارثية لهذا الوضع وهذا الترتيب، ويتعامل مع الأزمات والكوارث بصفتها أحداث تأتي لوحدها من دون مقدمات، أي حدث مبني للمجهول، ومنفصلة عن أي سياق سياسي وأمني قائمين في البلد، ولا علاقة لها بسلاحه الذي بات مصدر إحراج بل تأزم لعلاقة لبنان مع محيطه ومع العالم، ولا ترتبط بالتوترات الإقليمية والدولية التي كان للحزب الدور الحصري في خلقها.
يحاول حزب الله تصوير الأزمات الحالية في لبنان بأنها ناتجة عن فشل إداري وإخفاق في معالجة الأمور أو في برنامج هذه الوزارة أو تلك، أي معضلة أداء ومشكلة كفاءة شخص أو فرد، لا مشكلة حكم ووضعية سياسية بات هو عرابها وصانعها وحاميها.
لم نسمع من حزب الله طرحاً واحداً جدياً وشفافاً في مقاربة الأزمة الراهنة، بل ظل تداوله وحديثه عنها داخل دائرة السجال والكيد السياسيين، وغلب على مقترحات قادته الإرتجال والمواقف الشعبوية والمقترحات الشعاراتية: بحملة الجهاد الزراعي حيناً، وتجارة الخصار مع العراق حيناً، والدعوة بالتوجه شرقاً حيناً آخر. بل لم يتردد الحزب في الاستثمار السياسي والأيديولوجي للأزمة، لغرض تعزيز الحضور الإيراني وإظهار المنة الفارسية على لبنان، ليزيد من عزلة لبنان وحصاره ويعجل في انهياره.
يتقن الحزب في الأزمة الراهنة ممارسة الرشوة الاجتماعية، إما بإصدار بطاقات تموينية داخل بيئته، أو توزيع المساعدات العينية، أو الإعلان عن استيراد المحروقات من إيران بمعزل عن موافقة الجهات الرسمية فيه. هو أداء لا يقدم حلولاً للمشكلة، لكنه يعزل بيئته الخاصة عن الارتدادات السياسية للأزمة الراهنة، ويصرف الأنظار عن أصل الكارثة وموجباتها التي هي في العمق مشكلة تركيبة الحكم نفسه والترتيب السياسي الحالي الذي يؤمن هيمنة شبه كاملة للحزب. هو أداء يظهر الحزب بمظهر المخلص والمنقذ والملاذ الأخير لطائفته وبيئته الحاضنة. بل هو أداء يزيد كارثية الوضع الحالي، لأن فيه شبهة الحلول محل الدولة بأسرها، وشبهة التصرف بمعزل عن الأصول الدستورية والقانونية، وشبهة التعدي على القانون والتشجيع عليه، وشبهة تحويل البلد إلى أرض مفتوحة لا ضوابط أو أصول سيادية لها.
يجيد حزب الله لعبة كسر الإرادات ويذهب بها إلى أعلى مستوياتها، يتقن فن السيطرة، يبرع في أسطرة إنجازاته ورموزه، يستميت في الدفاع عن مكتسباته ومنجزاته التي ارتقى بها إلى درجة الثوابت والمحرمات الدينية، يجيد تحقيق انتصارات داخلية، لكنها ما تزال انتصارات هيمنة وغلبة، حتى لو كان الثمن تدنياً في شروط الحياة وارتكاساً في خلقيات السياسة وسقوطاً وانهياراً كاملين في مؤسسات الدولة.
إنها ذهنية الفصل بين النفوذ وبين المسائلة والمحاسبة، بين الحكم وبين تحمل مسؤولياته وعثراته وإخفاقاته. أي الذهنية التي تعتبر الدولة وسيلة والسلطة المطلقة غاية قصوى.