لا وجود لشيئ ذي قيمة بلا اسم، اذ انه التأكيد على وجود المسمى. بين اسماء دول العالم، اسم لبنان هو الاقدم، حيث ورد اسمه في العهد القديم اكثر من سبعين مرة. يقول سعيد عقل في كتابه "لبنان ان حكى"؛ ان اسم لبنان مركب من كلمتين ؛ " لب" وتعني قلب، و"نون" التي تعني الله، ليكون لبنان قلب الله. والسؤال المطروح هنا؛ لماذا هجر الله لبنان، ولم يستجب لنداء احدى قاماته الفنية؛ "يا رب لا تهجر سما لبنان"؟ والسؤال الاكثر الحاحا؛ لماذا ترك الله لبنان بعهدة البوم والغربان ليتحول الى صحراء قاحلة، بعدما كان "جنات ع مد النظر وجبال رافقها الازل".
كان حاكم الامارت الشيخ محمد بن زايد يتردد مع والده الى لبنان في ستينيّات القرن الماضي، وكان دائم السؤال؛ "متى تصبح دبي مثل بيروت؟"
هناك احتمالات لهذا التحول المرتد؛ احدهما غضب من الله حل على لبنان لانه لم يحفظ معاني اسمه الجليلة، وهذا مستبعد. والثاني غضب من الله حل على شعب لبنان لانه اساء اختيار ممثليه في الحكم، حيث ولّى على شؤونه اسرابًا من البوم عششت في الادارة والمؤسسات، وحيث يعلم الجمع ممّن ضم مجلسنا ان البوم في نعيه السقمُ.
تؤكد بعض الدراسات أنّ الغربان لا تنسى الاشخاص الذين يشكلون خطرا عليها، وهذا ما حصل في انتفاضة تشرين 2019 المجيدة، حيث هددت الثورة السلطة بكل أركانها.
كانت التظاهرات حضارية وعابرة للطوائف، وقد تابعها العالم عن كثب وبشغف، وظهّرت الصورة الحقيقية للبنان كنموذج للحرية والتعددية والتنوّع. وكشفت الانتفاضة حقيقة مخيفة ومرعبة للمنظومة المتسلطة، التي فقدت سطوتها، وخرجت ازمّة الامور عن سيطرتها. واستطاعت الانتفاضة ان تفرض ايقاعها على الحياة العامة؛ فاسقطت الحكومة ، ولاحقت غربانَ السلطة في الاماكن العامة، وحرّمتها عليهم، فصاروا يفرون كالقردة، فلم يجرؤ احدٌ منهم على الظهور العلني، وانزووا في جحورهم، وبدت الشاشات والاذاعات المرئية والمسموعة خالية من اية ملوثات بصرية وسمعية.
وبعد حينٍ.. استجمعت السلطة قواها وشدّت الأوتارَ، وانقضت على الانتفاضة، التي عانت اصلا من غياب برنامج عمل واضح وخارطة طريق تمنهج الخطوات المطلوب إنجازها، واضحت الثورة تشكل خطرا على نفسها، من حيث لا تريد، وساعدت السلطة في عملية الانقضاض.
اضافة الى سطوة الخطاب الطائفي الموتور الذي ضرب المشهد الحضاري، "شلّع" البلاد والعباد وأعاد شحن منظومة الفساد بقوة متجددة وَأَدَتْ الانتفاضة الى أجلٍ مسمّى، فأسباب الانتفاضة لازالت قائمة تسأل بأي ذنبٍ وُئدت.
إن سبب الفساد، وفقا للفهم "الخلدوني"، يكمن اساسا في خلخلة النظام السياسي، وما ينتج عنه من انحطاط اجتماعي واخلاقي. واكبر المفاسد ان يًسمى الاحتيال والخسة ذكاء، والانحلال والتسيب حرية، والعهر والكذب فنًا، والاستغلال والرشوة مساعدة.
يقول روسّو: "حين ارى الظلم في هذا العالم، أشغل نفسي بالتفكير بأن هناك جهنمًا تنتظر الظالمين".
ان البحث عن وسيلة ناجعة لمواجهة هذه المنظومة الفاجرة تبدأ برفض منطقها الطائفي الذي تجيد استغلاله للسيطرة وتملك كل شيء متاح، وفي صفقاتها كل شيء مباح. وحالها كحال مغرم بشيء، تسيطر عليه رغبة مجنونة بتملكه، وفي حال عجزه يتحول غرامه الى انتقام.
الحضارة نتاج طبيعي لتطور البشر، والتحضّر هو انتقال من طور البداوة الى طور الحضارة. والمفارقة ان الطبقة السياسية التي سيطرت في لبنان منذ اكثر من عهدين، اضافة الى عهد جهنم، عكست المعادلة فحولت لبنان من مدينة الى صحراء، ومن دولة الى ساحة مستباحة تذكرنا بأيام فتح لاند.
والمفارقة الملفتة ان الصحراء تحولت الى واحة خضراء، ودولة تمنح الاقامة الذهبية للخلّاقين، وحققت التنمية الاقتصادية والبشرية فيها درجات عالية ومتقدمة، دفعتها للمشاركة في استكشاف المريخ. فيما نحن حققنا اطول اصطفاف امام محطات الوقود كخطوة للخروج من المنظومة الشمسية والبشرية أيضًا!
إنّ تكوين لبنان تكوين مميز، عندما التقى أبناؤه في هذه المساحة كان همهم الحفاظ على ذواتهم، وذلك امر طبيعي، فلا احد يمنع الآخر من ان يكون منتميا، على أن لا يشكل الانتماء مدخلا للصراع مع الاخرين. ان المجتمع اللبناني محكوم ببنية طائفية وجدت تماهيا بين الحزب والطائفة، فالطائفية اذًا لا تعني تعصبا دينيا، بل ولاء سياسيا، وهذا يعود الى الخطاب السياسي الذي فرض تماهيا بين المجموعة الدينية وزعامتها السياسية، وهكذا صارت الطائفة والحزب وجهين لهوية واحدة.