الإنطباع الراسخ لدى غالبية المحلِّلين، هو أنّ لبنان لن يَخرج من المأزق قبل أن يُكمِل «ارتطامه الكبير». فالأضرار الناجمة عن هذا الإرتطام ستكون هائلة، ويَنتج منها تفكيك لبنان إدارياً ومالياً وسياسياً، وربما أمنياً. وعند هذه النقطة من الاهتراء، سيكون لبنان في وضعية «الصفر»، ويمكن أن يستسلم للتسويات والرعايات أو الوصايات.
حتى اليوم، لا يُصدِّق كثيرون أنّ عقارب الساعة يمكن أن تعود إلى الوراء، وأن يوضع لبنان مجدداًَ تحت رعاية خارجية، قد تكون أميركية - غربية أو سورية - عربية. وبعض الذين كانوا محسوبين ضمن «الخطّ السوري»، في زمن الوصاية السابقة، باتوا يجاهرون بأنّ دوراً معيناً لدمشق ربما يكون متاحاً في التسوية اللبنانية المقبلة، وضمن صفقة إقليمية - دولية شاملة.
هؤلاء يتوقعون أن يأتي حلّ الأزمة اللبنانية في شكل متناغم ومتزامن مع الحل السياسي للأزمة السورية. ويقولون: هناك «كوكتيل» من المصالح المتبادلة، السياسية والفئوية والتجارية، لدى الطبقة الحاكمة في لبنان وسوريا، قوامها أكثر من 250 مليار دولار هي قيمة إعادة إعمار سوريا ونحو 100 مليار دولار هي قيمة إنهاض لبنان من أزمته. وهذه المليارات سيتهافت عليها ذوو النفوذ هنا وهناك وأصحاب المصالح الإقليمية والدولية، عندما تُقرع ساعة الحلول. وهذا يعني أنّ شبكة القوى الدولية التي سترعى الحل السياسي في سوريا ستتولّى أيضاً رعاية المخارج للمأزق اللبناني، بالتوازي.
ولكن، هناك أيضاً مخزونات هائلة من النفط والغاز في المتوسط، وستشارك إسرائيل في تقرير مصيرها، أي ستكون موجودة داخل المشهد. ولن يتمّ ذلك إلّا نتيجة لمفاوضات بينها وبين كل من لبنان وسوريا، قد تتجاوز ترسيم الحدود وتقاسم الموارد إلى الأبعاد السياسية. وثمة مَن يعتقد أنّ إسرائيل، مقابل رفضها الانسحاب من الجولان، ستجد مصلحة في إغراء الأسد بمكسب آخر، ولا بأس في أن يكون لبنان.
المطلعون يعتقدون أنّ إنضاج هذه العملية المتكاملة، بين لبنان وسوريا وإسرائيل، سيستغرق وقتاً طويلاً. ولذلك، أمام لبنان مزيد من الوقت للدخول في الحلول الحقيقية، وطبعاً مزيد من الاهتراء.
وفي الانتظار، سيكون صعباً تحقيق التسويات حتى الصغيرة بهدف إمرار الوقت ومنع أن يتسبّب الاهتراء بانفلات أمني أو حروب جديدة. وهذه الحروب قد تكون جزءاً من السيناريو المطلوب لبلوغ الحلول أو لإنضاجها. فكثيرون باتوا مقتنعين اليوم بأنّ من المستحيل على لبنان أن يخرج من أزمته الحالية الشديدة التعقيد، «على البارد» تماماً.
كل الأمور تنتظر نتائج محادثات فيينا بين الأميركيين والإيرانيين. فهي ستحدّد مستقبل توازنات القوى في الشرق الأوسط وحجم النفوذ الإيراني، وخصوصاً في العراق وسوريا ولبنان. ولكن، بات واضحاً أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل تميلان إلى الاعتراف بموقع الأسد في سوريا مقابل إضعاف النفوذ الإيراني هناك. وهذا الاتجاه يرضي روسيا والمملكة العربية السعودية أيضاً.
ولكن، إلى أي حدّ يمتلك الأسد القدرة والإرادة للحدّ من نفوذ إيران، وفقاً لما ترغب الولايات المتحدة وحلفاؤها؟
إلى حين تدخل روسيا عسكرياً في سوريا عام 2015، كان الدور الإيراني حاسماً في حماية نظام الأسد. فالمعارك خاضها الإيرانيون بإدارتهم المباشرة، وقد تكبّدوا و»حزب الله» خلالها أثماناً باهظة، والأسد يحفظ لطهران هذا الدور.
ولذلك، قد يقلّص الإيرانيون حضورهم العسكري في سوريا، التزاماً بتسوية معينة، ولكنهم بالتأكيد سيحافظون على مقدار وافٍ من النفوذ. وهدفهم الأساسي هو استمرار «الهلال الشيعي»، بأي ثمن. وعلى الأرجح، سيوافق الروس على هذا المقدار من النفوذ الإيراني في سوريا، ما دام تحت سيطرتهم.
هنا يجدر التساؤل: ماذا عن لبنان إذا تمّت تسوية من هذا النوع في سوريا، بدعم دولي وإقليمي؟ وهل يمكن أن تُعطى دمشق من خلالها دوراً جديداً في إدارة التسوية في لبنان؟
بعض المتابعين يبادر إلى الجزم: لا مجال لتكرار نموذج الدخول العسكري السوري إلى لبنان، على غرار ما كان يحدث خلال سنوات الحرب الأهلية. ويمكن فقط أن يستفيد الأسد من الرصيد الذي يملكه لدى حلفائه في الداخل اللبناني، وهم يمتلكون اليوم غالبية القرار في السلطة.
وكانت لافتة زيارة وفد الأحزاب الحليفة لدمشق، وهي الأولى من نوعها علناً. وكذلك، يبدو مُعبّراًَ كلام رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، أمام الأنصار، عن فضائل الأسد الأب في حماية الجبل. والاجتماع الدرزي المقرّر السبت المقبل، في دارة النائب طلال إرسلان في خلدة.
في السابق، دخلت القوات السورية إلى لبنان تحت عنوان المساعدة في إخماد حربٍ معينة أو الدفاع عن مناطق أو طوائف معينة، كانت في وضعية صعبة عسكرياً. ولذلك، إذا لم تندلع حرب أو يقع فلتان أمني، خصوصاً في مناطق حدودية، وإذا لم تقم القوى الدولية والإقليمية الفاعلة بغضّ الطرف عن التدخّل العسكري السوري، فلا مجال لتكرار النموذج القديم.
وفي نظر البعض، أنّ عودة النفوذ السوري إلى لبنان قد تهدّد بمزيد من انفراطه. فاللبنانيون سينقسمون بين موافقين على هذا التدخّل ورافضين له. وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى نشوء منطقتين في لبنان: واحدة تحت النفوذ السوري وأخرى خارجه.
هذا النموذج كان قائماً في الحرب، قبل سقوط «المنطقة الشرقية» عام 1990. وإذا تكرّر اليوم، فستكون له تبعات سياسية شديدة الأهمية على تركيبة لبنان ومستقبله.