فيما بعد علمتُ، أني كنتُ أُبذّر أموال المودعين. كان أقاربي في المغتربات، وهم يقيمون في أكثر الدول غنى في العالم، تصيبهم الدهشة من السلوك الاستهلاكي للبنانيين وطريقة عيشهم المرفهة، مع أنهم كانوا يقولون لنا بلدكم هو الأغلى في العالم.
ما قاله الوزير ريمون غجر، يغني عن ألف مقال، كلامه هو الضوء الأول إلى ما بعد النفق، ولو كان ما بعد النفق هو أشدّ حلكة مما في النفق، دعكم من تفاهات إحدى الإعلاميات في إحدى المحطات، دعكم من تهجمها السخيف على غجر، مع الإشارة أن إعلام هذه الإعلامية منغمس في عملية الفساد تسويقا وتشويقا، إعلام كان أداة لتعظيم غنائم طرف من الفاسدين على حساب فاسدين آخرين، بينما غجر لم يخدع اللبنانيين بكلامه ولم يكذب عليهم كما تفعل هذه الإعلامية، وهو على طريقة "صديقك من صدقك"، قال لنا ما ينتظرنا، مع أن الأغلب منا يتوقع ما توقعه هذا الوزير.
مرحلة الإنفاق على حساب أموال الآخرين اقتربت من نهايتها، لبنان ما قبل ال 17 تشرين ال 2019 Gone with the Wind، لا يفيد الندب والتحسر عليه، لأن ذا اللبنان كان كذبة وصدقناها، ليس لأننا أغبياء، إنما لأن هذه الكذبة من مصلحتنا.
فحوى كلام غجر، هو مصارحة فئات واسعة من الطبقة الوسطى، بأن قال لها بكل تهذيب: تفضلوا أو شرّفوا إنزلوا إلى الطبقات الفقيرة، وهذا تصنيفكم الجديد.
أقبضوا كلام غجر بحرفيته وتصرفوا على أساسه...أصلا نحن (الفئات المقصودة) تغير كثيرا سلوكنا الاستهلاكي.
وحدها الطبقات التي كانت الأشد فقرا، لن تشعر بحجم التبدّل المعيشي، لأن المسافة بين الفقر والعوز هي أقل بكثير من المسافة التفصل الاكتفاء عن الفقر. وهذا ما يفسّر غلبة الطابع الثقافي والسخرية والتهجم اللفظي في الثورة على السلوك الثوري فيها، لأن الفقراء لا يملكون موارد لغوية للتعبير عن غضبهم، إنما يملكون سواعد وقبضات ودما هي أداتهم الوحيدة في التعبير، ولن يستخدموها للدفاع عن مصالح طبقة وسطى غبية ومستهترة قصيرة النظر، أعمتها رشاوى الطبقة الحاكمة بفتات أموال المودعين، لقاء تخليها عن دورها التاريخي في محاسبة الحكّام والدفاع عن الطبقات الأدنى منها.
إلى الفقر والقلة در.
حسين حمية