لم يعد أحد يصدق أنّ اتفاقاً على من يسمّي الوزيرين المسيحيين والبت بحقيبتي وزارتي الداخلية والعدل، يعوقان تشكيل الحكومة. فالمتوغلون في عملية التأليف في الغرف المقفلة، يبحثون عن حلّ عقدة اخرى مطروحة منذ تكليف الرئيس سعد الحريري والعقوبات الاميركية على النائب جبران باسيل. وهو ما يدفع الى انتظار من يتجرأ على كشف سرّها..
على وقع الحملات الاعلامية المتبادلة بين التيارين الأزرق والبرتقالي، والتي اشتدّت الى درجة أطاحت كل الخطوط الحمر، بعدما لامست المسّ بالأخلاقيات السياسية ولغة التخاطب بين اللبنانيين وعدم قدرة اي طرف على لجم طموحاته، اعتقاداً من الطرفين انّ ما يجري هو معركة وجود بالنسبة اليهما. فلكل منهما ظروفه وأسبابه للمضي في المواجهة، اعتقاداً منهما أنّها الوسيلة الفضلى لإعادة شدّ العصب المذهبي والطائفي الذي يحميهما، كل على ساحته، في انتظار تسوية ما، لا يزال كل منهما يطمح إليها.
قد يعترض بعض العارفين بكثير من تفاصيل مفاوضات الأيام الأخيرة على وضع الطرفين في الخانة عينها، وخصوصاً لجهة السعي الى شدّ العصب المذهبي، من دون القدرة على الدفاع عن وجهة نظره الى النهاية الناجحة. ففي الكواليس السياسية كلام كثير عن المصاعب التي يواجهها الطرفان في الساحتين المسيحية والسنّية ولو بنحو متفاوت. فالإحصاءات «المكتومة» التي اجرتها شركات عدة متخصصة في استقصاء المزاج الشعبي، تؤكّد هذه الفوارق بنحو لا يرقى اليه اي شك.
وقد أبرزت الإحصاءات صعوبات كبرى يواجهها «التيار الوطني الحر» على الساحة المسيحية، كما على ساحته الحزبية الداخلية لألف سبب وسبب. وفسّر بعض من اطلعوا على ما قادت إليه المؤشرات الجديدة، بتجاهل السلطة للمِهل الدستورية التي تحكم الدعوة الالزامية الى الانتخابات النيابية الفرعية، التي كان يجب ان تجري في مرحلتها الاولى في منتصف الخريف من العام الماضي، والثانية التي عبرت نهاية أيار المنصرم، وهي مِهل رسمتها استقالة 8 نواب من المجلس النيابي في النصف الأول من آب الماضي، ووفاة نائبين مطلع السنة الجارية، مخافة ان تُظهر ما اصاب تيار العهد من أضرار، بدأت في الجسم الحزبي الضيّق منذ انتفاضة 17 تشرين العام 2019، وزادت منه الانهيارات المالية والاقتصادية، لتتوسع على مستوى المزاج المسيحي الأوسع.
أما على مستوى تيار «المستقبل»، فلم تلحظ الإحصاءات اي انهيارات مماثلة في الجسم «المستقبلي»، ولا على الساحة السنّية، بعدما نجح الحريري في ربط مواقفه بالشارع السنّي بمختلف وجوهه الدينية والحزبية، كما على مستوى العلاقة التي نسجها مع مجموعة رؤساء الحكومات السابقين، التي كادت تتحول مؤسسة رديفة لتيار «المستقبل»، الى جانب ما تمثله دار الفتوى من بُعد ديني ومذهبي تقف الى جانبه، ظالماً كان أو مظلوماً. وزادت منها العلاقات التي نسجها في كثير من المحطات مع البطريركية المارونية، وزيارته الشهيرة للفاتيكان، قبل ان يستعيد صدارة الاكثرية على الساحة السنّية بلا منازع. وهو موقع عززه في الخطوات التي تلت وقوفه الى جانب رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب عند استدعائه كمتهم الى التحقيق امام المحقق العدلي السابق في جريمة تفجير المرفأ القاضي فادي صوان. كما تلك التي رافقت ازمة تأليف الحكومة منذ تكليفه، مروراً بكل ما شهدته من محطات أخرى طوال الأشهر الثمانية الماضية، الى ان انتهت باعتباره المرشح الأوحد لتشكيل الحكومة الجديدة حتى اللحظة بلا منازع.
وبناءً على ما تقدّم، لا تكفي الإشارة الى هذا الجانب من النزاع لتبرير التعثر في التأليف، فهناك شروط أخرى تعوقها، وهو ما يشير إليه احد أبرز الوسطاء في الطبخة الحكومية عند اعترافه بأنّ عودة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الى التعاطي بملف التأليف على المكشوف، كان من اولى الاسباب التي أعاقت عملية التأليف التي احيتها المبادرات الداخلية والخارجية.
وإن توسع المراقبون في شرح هذه النظرية، يكتفون بداية بالتذكير، انّ الدور الذي لعبه باسيل سبق له ان عطّل مبادرات الوسطاء السابقين، وخصوصاً انّ الحريري، مدعوماً بعدد غير قليل من المعنيين بالمهمّة، كانوا يصرّون على انّ مهمة التأليف بعد الاستشارات النيابية الملزمة في بعبدا، وتلك غير الملزمة في مجلس النواب، هي بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف دون غيرهما، اياً كان موقعه. وهو ما استدعى في حينه إصدار عدد من البيانات عن قصر بعبدا، تنفي اي دور لباسيل في المهمّة التي يديرها رئيس الجمهورية وحيداً.
كان ذلك واضحاً، قبل أن ترسو أخيراً مهمة الوساطة على رئيس مجلس النواب نبيه بري، مدعوماً من «حزب الله» وبموافقة مسبقة من طرفي الخلاف في بعبدا و»بيت الوسط»، والذي تمحور حول تفسير صلاحيات الرجلين، وما اناطه الدستور بهما، الى درجة أبقت الجلسات الـ 18 بينهما في دائرة المناقشات بلا جدوى، على الرغم من وجود التشكيلة التي قدّمها الحريري في 9 كانون الأول الماضي على طاولة البحث.
وعليه، ومن دون التوسع في كثير مما يُقال من هذا الطرف أو ذاك، وعلى وقع الخلاف القائم بين بعبدا والبياضة من جهة و»بيت الوسط» من جهة اخرى، فإنّ ما يركّز عليه الطرفان في تسريباتهما، يرهن عملية التأليف بجواب نهائي، إما من الحريري او من باسيل. وامام هذه المعادلة، فقد عادت الى الأذهان ما انتهت اليه المحاولات السابقة من فشل، عند الحديث عن دور باسيل. وان ظهر انّ الحديث عن هذه العقدة منطقي، فهو يستند في تحميله المسؤولية لباسيل، الى المشادة العنيفة التي شهدها لقاء لم يُعلن عنه عُقد في قصر بعبدا بين كل من المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل والمعاون السياسي للامين العام لـ»حزب الله» حسين خليل ومسؤول التنسيق والارتباط في الحزب وفيق صفا، وهو ما ادّى الى «كربجة» مهمة بري مؤقتاً في انتظار ان يقول بري الكلمة الفصل في نهاية مهمته، فهو يمتلك وحيداً امر استمرارها او نعيها.
وبناءً على ما تقدّم، هناك من يعتقد، وهو عليم بأدق تفاصيلها، انّ مفتاح الحل لا يرتبط بهذه التفاصيل الحكومية، وأنّ الإستحقاق الرئاسي على الطاولة، معطوفاً على مصير العقوبات الاميركية على باسيل. وستبقى هذه المعادلة قائمة مهما كره الكارهون وتمنّى الطيبون، إلى ان يقول بري كلمته الفصل في مصير مبادرته وما يعوقها، والى وجود من يجرؤ على كشف السرّ الذي يعوق هذه العملية.