قضي الأمر، المنظومة السياسية الحاكمة في لبنان أصبحت جاهزة لخوض الإنتخابات النيابية المبكرة، بعد أن كانت ترفضها بالمطلق وتتهرب منها، كما تهرّبت من الإنتخابات الفرعية خلافاً للدستور، بعد شغور عشرة مقاعد نيابية نتيجة الإستقالات وحالات الوفاة، وذلك خوفاً من ثورة ١٧ تشرين، خاصةً بعد الخسائر المتتالية التي منيت بها أحزاب السلطة في العديد من الجامعات والنقابات، وهذا ما دفع تلك الأحزاب لتأجيل إنتخابات نقابة المهندسين للمرة السادسة، والسبب هو الخوف من الخسارة المدويّة التي تنتظرها.
لكن السؤال: ما الذي جعل أحزاب المنظومة جاهزة لخوض الإنتخابات المبكرة؟
حزب القوات اللبنانية الذي كان طرفاً في التسوية الرئاسية التي أوصلت الرئيس ميشال عون إلى سدّة الرئاسة الأولى، رفض الإستقالة من مجلس النواب بعد إنفجار الرابع من آب، وربط إستقالته بإستقالة تيار المستقبل والحزب الإشتراكي، وهناك إعتقاد لدى قيادة القوات بأن نتائج الإنتخابات النيابية القادمة ستسجّل تقدماً للقوات على حساب التيار الوطني الحرّ، وهي الآن تنادي بالإنتخابات النيابية المبكرة. أما أحزاب المنظومة المشاركة في السلطة، فقد نجحت إلى حدّ كبير بإخلاء الساحات من ثوار ١٧ تشرين، بسبب العنف المفرط الذي مارسته هذه السلطة ضد الثوار، وجائحة كورونا واقفال البلد وإعلان حالة الطوارئ، ثم جاء إنفجار بيروت الذي دمّر نصف بيروت، وقتل وجرح وشرّد مئات الآلاف، إضافةً إلى الإنهيار الإقتصادي وإنهيار الليرة وإرتفاع جنوني للأسعار وفقدان المواد الأساسية، ما جعل المواطن اللبناني مشغولاً كل الوقت بتأمين قوته اليومي، ترافق ذلك مع صراعات سياسية حادّة ذات طابع طائفي ومذهبي وتبادل إتهامات بين أحزاب المنظومة الحاكمة، وذلك بهدف شدّ العصب الطائفي والعودة إلى الإنقسامات والإصطفافات السياسية التي كانت سائدة قبل ١٧ تشرين ٢٠١٩.
المنظومة الحاكمة بعد أن فشلت في وقف الإنهيار، وعجزت عن تقديم حلول ولو مؤقتة للأزمات الحادّة التي أوصلت لبنان إليها، ورفضت تسليم الحكم لحكومة مستقلّة من الإختصاصيين القادرين على قيادة البلاد لمرحلة إنتقالية تعيد تشكيل السلطة على أسس صحيحة، وإيجاد مخارج للخروج من الواقع المأزوم ، تحاول هذه المنظومة الهروب إلى الأمام والتجديد لنفسها من خلال الإنتخابات النيابية سواء كانت مبكرة أو في موعدها الدستوري، لأنها تعتقد بأن الإنتخابات النيابية إذا جرت وفق القانون النافذ، وغياب الهيئة المستقلة للإشراف على الإنتخابات، وفي ظل حكومة مؤلفة من أحزاب المنظومة، ستعيد إنتاج نفس السلطة مع تعديل طفيف. التيار الوطني الحرّ أصبح يهدد بالإستقالة من مجلس النواب لسحب التكليف من الرئيس الحريري، بعد أن أجرى إستطلاعات رأي في مناطق وجوده، وخرج بإستنتاج يقول بأنه لن يخسر كثيراً في الإنتخابات القادمة، وأن خسارته ستقتصر على النواب الخمسة الذين خرجوا من تكتله النيابي.
تيار المستقبل أيضاً يلوّح بالإستقالة من مجلس النواب في حال إضطر الرئيس سعد الحريري للإعتذار عن التكليف، ويعتقد تيار المستقبل بأنه قادر على الإحتفاظ بنفس عدد النواب، وبالتالي البقاء في موقع الأكثر تمثيلاً للطائفة السنية. الثنائي الشيعي ما زال قادراً على الإحتفاظ بآحادية التمثيل للطائفة الشيعية في الدولة، وكذلك النائب وليد جنبلاط، يبدو مرتاحاً لشعبيته داخل الطائفة الدرزية، وبالتالي أصبح الذهاب إلى الإنتخابات النيابية المبكرة بمثابة طوق النجاة الوحيد للمنظومة الحاكمة، بعد أن كانت تعتبرها حبل مشنقة يلتف حول عنقها، وذلك لإعادة إنتاج نفسها ولكسب المزيد من الوقت، بإنتظار تسوية ما قد تأتي وتعيد تعويمها، كما فعل الرئيس الفرنسي من خلال المبادرة التي أطلقها بعد إنفجار المرفأ، والتي فشلت حتى الآن بتشكيل حكومة، إلاّ أنها إمتصّت النقمة الشعبية بعد جريمة العصر، وأدّت إلة تعويم المنظومة الحاكمة ولو مؤقتاً.
صحيح أن شعار الإنتخابات النيابية المبكرة سبق أن رفع في ساحات ثورة ١٧ تشرين، إلاّ أن هذه الإنتخابات إذا لم تترافق مع تشكيل هيئة مستقلة للإشراف عليها، وإقرار قانون إنتخابي عصري وعلمي وعادل، لا يراعي خصوصيات أي طرف من الأطراف المنظومة كما جرت العادة، بل يعتمد وحدة المعايير ويؤمن العدالة بالتمثيل، وإذا لم تشكل حكومة مستقلة من غير المرشحين لإجراء هذه الإنتخابات، وإذا لم تكن الإنتخابات جزء من مرحلة إنتقالية تعيد إنتاج السلطة وتستعيد ثقة الداخل والخارج، تكون الإنتخابات مجرد أداة لإعادة تدوير المنظومة المسؤولة عن كل الأزمات الي يعاني منها لبنان.