شخصيتان مختلفتان تعكسان بشكل مباشر اتجاهين منتشرين في العالمين العربي والإسلامي وهما الآن يسيطران بتفاوت كبيرعلى المشهدين السياسي والثقافي بحيث تمثل الشخصية الأولى الإتجاه الفكري أو العقلي وتمثل الشخصية الثانية الإتجاه السياسي و الجهادي والنقلي .
ساهم هشام جعيط في إغناء الثقافة العربية – الإسلامية من خلال مجموعة مؤلفات متصلة بجدلية التراث الديني ونزعة الفتنة فيه والتي سيطرت على التجربة الإسلامية بعيد وفاة النبيّ محمّد (ص) وقد نحا الكاتب والمفكر جعيط في محاكاته لمحنة الصراع بين المسلمين الأوائل منحى التاريخي لا منحى المذهبي الذي يفصّل التاريخ على قياس المذهب الذي ينتمي إليه وهذا ما جعل من كتاب الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر الأكثر موضوعية مابين الكتب التي تناولت موضوعات الفتنة زمن الخليفة الثالث .
كتب الكاتب جعيط في العربية والفرنسية محاولاً تبيان ما هو مأزوم في الثقافة الإسلامية نفسها وفي الصدام القائم ما بين العرب والمسلمين والغرب وقد حلّل الشخصية العربية الإسلامية في مخاضها الصعب داخل المصير العربي إضافة الى محاولة التأسيس لغرب إسلامي غير متوفر.
لم يفت من عمره ما يمنعه من أن يكون مستغلاً للقراءة وللكتابة والمساهمة في التعليم وهذا ما جعل منه كتاب تونسي مفتوح على الشرق والغرب من موقع المحاورة والمناقشة لعناوين ومواضيع حسّاسة ولم تزد أوسمة الدولة وغيرها رفعة له بقدر ما كرم المكرمون أنفسهم في شخصية عربية استثنائية جددت في قراءات التراث ولم تقف أمام حائط التراث كما يقف المتدين اليهودي أمام حائط المبكى .
إقرأ أيضا : عرّيف الصف عرّيف الحزب
رحم الله هشام جعيط الذي توفاه الله أمس وألحقه بأترابه من المفكرين العرب ممن ماتوا وهم أحياء يرزقون من خلال أعمالهم ومؤلفاتهم المستعصية على الموت رغم محاولات حفّاري قبور العقل لدفن ما أنتجه العقل الحديث من محمد أركون الى هشام جعيط .
ساهم راشد الغنوشي في تعزيز أدبيات الإسلام السياسي ووجوب سعي المسلم لإقامة الدولة الإسلامية بعد تكفير المجتمع وإعادة تأهيلة كيّ يكون مسلماً مجاهداً لأن المسلم غير المجاهد فاقد لإسلامه وهذا ما كرّس الشخصية الجهادية التي اعتمدها الإسلام السياسي بغية تدمير المجتمعات العربية الإسلامية كونها دار كفر طمعاً بجنتي الدولة والقيامة وهذا ما صنعه راشد الغنوشي طيلة تجربته الإخوانية داخل حركة النهضة التي قادها في الخارج وأحسن بها الوصول الى حكم تونس بعيد سقوط نظام بن علي وعلى غفلة من التونسيين الذين ظنوا كما المصريين بأن إسلام الغنوشي هو الحل .
إن الإتجاه العربي الإسلامي المعرفي والذي مثلته شخصية هشام جعيط هو اتجاه بعيد كل البعد عن أدبيات الإسلام السياسي وهو كافر بإيمان الإسلام الجهادي والتي تجلّت آخر بشائره بالتجربة الداعشية وهو اتجاه يعزّز منطق العقل مع الذات ومع الآخر .
في حين أن الإتجاه العربي الإسلامي النقلي والذي يلعب فيه راشد الغنوشي دوراً بارزاً هو اتجاه إقصائي إلغائي ولا يؤمن بمن لم يؤمن بدين الجماعة ورفض بيعة المرشد وهو اتجاه يعتمد الدم وسيلة لتحقيق الأهداف و للمحافظة على المصالح .
تونس والعالم العربي و الإسلامي يخضعان لقوّة التيارات الغنوشية في ظل وجود خجول لتيار هشام جعيط وهذا ما جعل التطرف هو سمة المشهد العربي – الإسلامي .