في ظل استمرار البحث عن شكل الحكومة العتيدة وتركيبتها وطريقة تشكيلها وتوزيع حقائبها، يشهد اللبنانيون يومياً مزيداً من الانهيارات في كثير من القطاعات الحيوية، ويشارك المسؤولون في نعيها بلا اي ردّ فعل. وهو ما دفع الى الاعتقاد انّ عملية تفكيك منظّمة للدولة ومؤسساتها تجري على انقاض اوهام وسيناريوهات تحاكي المصالح الخاصة. ولذلك طرح السؤال: إذا تفكّكت الدولة من سيجمعها؟
قبل ان تنتصف السنة الجارية لم يكن صعباً إحصاء الانهيارات المتتالية في كثير من القطاعات الحيوية. فتزامناً مع تنامي الأزمة النقدية نتيجة التراجع المريع لسعر العملة الوطنية وتراجع قيمتها الشرائية الى درجة غير مسبوقة وانعكاساتها على الخزينة العامة والقطاع العام، فقد توسعت رقعتها لتشمل مختلف الخدمات العامة وعدداً من وجوه الحياة اليومية للمواطنين والمقيمين على الأراضي اللبنانية. فمنذ مطلع السنة بدا واضحاً انّ ما ورثته عن سالفتها من مظاهر الأزمتين الحكومية والمالية وما تركه تفجير عنبر الفساد في المرفأ، بدأ ينعكس على مختلف القطاعات الحيوية وصولاً الى ما يهدّد السلطات الدستورية والقضائية.
وإن اراد اي مراقب الدخول في كثير من التفاصيل، لا يسعه سوى التوسع في اتجاه احصاء المشكلات التربوية والاجتماعية، وما اصاب القطاع الاستشفائي من المؤسسات التي تقدّم الخدمات الطبية، الى تلك الضامنة التي تتكفل بجزء كبير من الكلفة الباهظة في هذا القطاع. وإن زادت جائحة كورونا من ضخامة الاستحقاق، فإنّ الإشارة الى الطريقة المعتمدة لتوفير الدعم للأدوية والمستلزمات الطبية وما رافقها من استغلال على مستويات عدة ومن أكثر من جهة. فتساوت الوزارة بكل مسؤوليها وخصوصاً ممن تورطوا بتحديد الشركات التي تتعاطى هذه «الخدمة المدعومة» وتجاهلوا حجم التهريب والغش في الكميات المستوردة فبقيت العملية على همّة مجموعة من المحتكرين الذين تمّ تحديدهم سلفاً وفق مواصفات وشروط راعت ظروف البعض وأبعدت آخرين عن القطاع، وهو ما ادّى الى ولادة «نادٍ خاص» بهذا القطاع يستورد ويراقب ويحاسب ويحاكم نفسه بنفسه. ولذلك ظهرت الفوارق الكبيرة بين حجم ما تمّ استيراده وبين ما تحتاجه السوق اللبنانية، لتُظهر العملية الحسابية في نهايتها حجم الاحتكار والتهريب او تخصيص كثير مما هو مدعوم لهذا الطرف الحزبي او ذاك.
وما ينسحب على قطاع الدواء والاستشفاء لا يختلف عن معاناة قطاع المحروقات والقمح والطحين والمواد الغذائية الاساسية من حبوب ومعلبات، فظهرت اللوائح بالمحتكرين والأغنياء الجدد في اكثر من منطقة، وضاعت مليارات عدة كان يمكن الاستفادة منها من خلال عملية ترشيد إنفاقها لو أُوكلت المهمة الى من كان مستعداً لتحمّل المسؤولية بصدق وشفافية بعيداً من منطق توزيع المغانم والحصص الطائفية والحزبية والمالية.
لم تقف الانهيارات عند هذه القطاعات المهمة، بعدما طاولت قطاع إنتاج الطاقة الكهربائية بحدودها الدنيا وانعكاساتها على الخدمات العامة في المرفأ ومؤسسات اخرى ومعها مصالح المياه المستقلة في عدد من المناطق. وباتت الإشارة سهلة إلى ما طاول المؤسسات العامة والوزارات، فتقلّصت قدرة المؤسسات الضامنة للخدمات الاجتماعية للفقراء والمعدمين، كما بالنسبة الى الصحة والاستشفاء، من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى تعاونية موظفي الدولة وصناديق التعاضد، على مواجهة مظاهر الأزمة. وما زاد من حدّتها عمليات صرف الموظفين في القطاع الخاص والمصارف وتقلّص القدرة على تأمين التعويضات العادلة للمدنيين والعسكريين من مختلف المؤسسات الى درجة أُرجئ دفع البعض منها او تقسيطها إلى اجل غير مسمّى.
ولذلك، فقد اقتصرت التعويضات المدفوعة على العاملين في جزء من القطاع الخاص والمصرفي منه خصوصاً، بقيمة افتقدت الى أكثر من 85 الى 90 % من قيمتها الشرائية، من دون ان تلحظ عند احتساب قيمتها الفعلية الفوارق الهائلة التي تحدث عنها بعض النقابات والهيئات قياساً على تعدد اسعار العملات الصعبة والتمييز بين «الدولار النقدي» و»الدولار المصرفي» وما بينهما الدولار المتفلّت من أي رقابة او قدرة على التحكّم بسعره في السوق السوداء الذي دخلته رساميل مصرفية اجنبية وداخلية مخزّنة في الصناديق الخاصة، وبعض المؤسسات المالية والمصارف والصيارفة الذين تورطوا جميعاً في التداول بطريقة غير نظامية بأموال غير نظيفة فتحكّموا بقيمتها وتلاعبوا بما كان يمكن اعتباره ضماناً لفترة الخريف من عمر الإنسان.
والأخطر مما تقدّم، لا يقف عند حدود ما هو معلن من أزمات، فإلى ما سبق لا يمكن تجاهل حجم الخسائر غير المنظورة التي اصابت اللبنانيين، فدخل التعطيل الحكومي على خط الازمة معطوفاً على قرار اتخذته حكومة «مواجهة التحدّيات» بالتزامها الحدّ الأدنى من تصريف الأعمال بطريقة استنسابية. والى مجموعة المراسيم الاستثنائية التي صدرت بالعشرات في الفترة التي اعقبت استقالتها لحلّ مشكلة شخص او مؤسسة من هنا واخرى من هناك، فقد أحجم رئيس الحكومة عن القيام بإجراءات تضمن استمرار العمل في المرافق العامة. فإلى الشلل الذي أصاب قصور العدل ومؤسسات ووزارات اخرى افتقرت الى بطاقات «إجازة العمل» كما هو قائم في وزارة العمل، فقد توقف إصدار فواتير الهاتف الارضية ورقياً، وافتقدت الاوراق البيضاء والحبر في وزارة العدل وبعض المؤسسات الاخرى، التي لجأت إما الى دعم مباشر من القطاع الخاص لتأمين القرطاسية او عجزت عن القيام بخدمتها سوى لمن يحمل أوراقه معه لينال نسخة من وثيقة او قرار.
لا تقف الانهيارات عند هذه الحدود، فيكفي القول إنّ شلل المجلس الدستوري لفقدانه نصابه القانوني بغياب ثلاثة من اعضائه بوفاتهم منذ بداية السنة حتى مطلع ايار الجاري، فقد مجلس القضاء الاعلى نصابه امس وبات هيكلاً مفكّكاً لا قدرة له على التعاطي مع المراجع الادارية والعدلية والامنية، وشُلّت تحقيقات يراهن عليها لبنانيون حلموا بـ «القضاء المستقل» عدا عن الحرب البينية في داخله وفي علاقاتهم بالهيئات القانونية ومنها نقابات المحامين.
وإن كان شلل المجلس الدستوري سيؤدي الى تعطيل العمل التشريعي في مجلس النواب قانوناً، لم يتحرّك المجلس من اجل سدّ الشغور بالعضو المنتخب من أعضاء المجلس الدستوري ليستقيم العمل فيه من اجل مراقبة دستورية القوانين. وكذلك فقد تعطّلت عملية تعيين الاعضاء الاربعة في مجلس القضاء لخلاف نُسب الى محاولة وضع اليد على الثلث المعطل الذي ما زال سبباً يعوق اياً من السيناريوهات التي تحاكي التشكيلة الحكومية العتيدة.
وفي المحصلة، فإن كان ما سبق غيض من فيض، يتساءل المراقبون عن اهمية الاستمرار في تبادل الاتهامات بين رؤساء السلطات الرسمية من مواقعهم المحصنة، كل على خلفية البحث عن دوره أو لحماية ازلامه، ألم يرصدوا بعد أنّهم باتوا يتربعون فوق هيكلية دولة منهارة ومفلسة ومشلولة فارغة من كوادرها ومؤسساتها ما عدا الأمنية منها، وأنّهم ما زالوا يمعنون في تفكيكها؟ وهل لديهم أي تصور عن هوية ودور من سيجمعها لاحقاً قبل فوات الاوان؟