يعتبر النظام السوري انّ دوره الإقليمي الكبير انتزعه من خلال دخوله إلى لبنان في مرحلة أولى، وإمساكه بالورقة اللبنانية بتفويض دولي في مرحلة ثانية، ولمسه لمس اليد مع خروجه من لبنان الذي أدّى إلى اندلاع الثورة في سوريا.
أفضل توصيف سياسي لهذا الواقع أعطاه قيادي حزبي بقوله: «النظام السوري ولبنان على غرار السمكة في المياه، التي ما ان يتمّ إخراجها من الماء حتى تموت. وكذلك الأمر بالنسبة إلى هذا النظام، الذي اكتشف انّ حياته السياسية مرتبطة بهيمنته على لبنان، وما لم يستعد هذه الهيمنة ستبقى حياته السياسية مهدّدة وجودياً في سوريا، وهذا ما يفسِّر محاولاته الدائمة للعودة إلى لبنان بأي شكل من الأشكال وبأي طريقة من الطرق».
وقد أيقن الأسد الأب باكراً هذه الحقيقة، ولو لم يُرسل قواته إلى لبنان لكان دخل في نزاعات داخلية لا تنتهي، على غرار الأنظمة التي لم تعمّر وأطيحت قبل وصوله. ولم يكن أمامه سوى التوسُّع إقليمياً من أجل القمع داخلياً و»إقناع» الشعب السوري بأنّ ما يقوم به ليس من منطلقات علوية، إنما لاعتبارات تخدم سوريا بتمدّدها ودورها.
ولولا الأحداث الإقليمية مع الانسحاب الإسرائيلي، والدولية مع 11 أيلول، وما تلاها من إسقاط نظامي «طالبان» وصدام حسين، ومن ثم اغتيال الشهيد رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان تنفيذاً للقرار 1559، لما اندلعت الثورة في سوريا، لأنّ خروجه من لبنان أضعفه في سوريا، وهذه المعادلة ثابتة تاريخياً، ولم يتمكّن اي نظام من الصمود إلّا نظام الأسد بفعل تمدّده إلى لبنان، وهذا ما يدركه النظام جيداً، بأنّ لا دور له في سوريا ما لم يستعد دوره في لبنان.
ومعلوم انّ النظام السوري اليوم فاقد للقرار السياسي الذي تمسك روسيا به. والساحة اللبنانية هي الوحيدة القادرة على منحه الدور والوهج، ومن خلالها يتمكّن من إعادة الإمساك بمفاصل الورقة السورية. وما حصل من خلال عراضة التصويت لبشار الأسد، لا يخرج عن سياق محاولات التطبيع القديمة-الجديدة التي يسعى من خلالها النظام السوري إلى إعادة الاعتبار لدوره في لبنان، من أجل العبور والانطلاق منه إلى دوره داخل سوريا وعودته إلى المعادلة الإقليمية.
وقد تحدثت معلومات عن نقاشات حصلت في الآونة الأخيرة داخل دوائر ضيقة في 8 آذار، وخلصت إلى وجهة نظر، من دون ان يكون هناك اي تبنٍ رسمي لها بعد، وهي ترتكز على النقاط الآتية:
ـ أولاً، محور الممانعة كلٌ متكامل، وخسارة اي ضلع من أضلعه هي خسارة لكل المحور. ولهذا السبب بالذات، وضِع كل الثقل منعاً لسقوط النظام السوري الذي يشكّل انهياره إسقاطاً للجسر الذي يربط طهران ببيروت وغزة.
ـ ثانياً، السياسة المستقلة التي انتهجها النظام السوري عن طهران في زمن حافظ الأسد كانت مستقلة شكلاً من دون ان تتعارض جوهراً ومضموناً مع الاستراتيجية الإيرانية. وهذه الاستقلالية صبّت في مصلحة محور الممانعة من زاوية الغطاء العربي للنظام السوري، هذا الغطاء الذي سُحب عندما أصبح قرار دمشق في طهران.
ـ ثالثاً، لا مصلحة لمحور الممانعة في ان يتحوّل النظام السوري حالة على نسق «حزب الله» في لبنان، والحوثي في اليمن، إنما يجب ان يكون على غرار النظام العراقي الذي هو في حلف استراتيجي مع طهران، ويقيم في الوقت نفسه أفضل العلاقات مع الدول العربية والخليجية تحديداً.
ـ رابعاً، المصلحة الاستراتيجية لمحور الممانعة تستدعي عودة سوريا إلى الموقع الذي كانت عليه إبّان رئاسة حافظ الأسد، وحتى في مرحلة نجله بشار، عندما ترافق مثلاً والعاهل السعودي في زيارة مشتركة للبنان في تموز من العام 2010، وبالتالي يجب فعل المستحيل من أجل ان تعيد دمشق ترميم علاقاتها مع دول الخليج، لأنّ من دون هذه العلاقة سيبقى دور النظام فاقداً الشرعية العربية، وفي عزلة تهدّد مصيره، الأمر الذي يبقي «حزب الله» في حال حصار مطبق، ويرتد سلباً على محور الممانعة بمجمله.
ـ خامساً، الكلام عن خط سوري وخط إيراني وتعارض بين الخطين، أكثر من ضروري من أجل الترويج لعودة النظام السوري إلى الحاضنة العربية والتسريع في هذه العودة. ومعلوم انّ التحالف الاستراتيجي بين النظامين السوري والإيراني بدأ مع الثورة الإيرانية وما زال وسيبقى مستمراً. ولكن سوريا العربية تخدم محور الممانعة أكثر بكثير من سوريا الإيرانية.
ـ سادساً، دلّت التجربة منذ خروج الجيش السوري من لبنان على ثلاث وقائع أساسية:
الواقعة الأولى، انّ «حزب الله» اضطر ان يطُّل برأسه لتعبئة الفراغ السوري، فدخل في مواجهة مباشرة مع المكونات الأخرى، فيما كان يقوم بدوره قبل الخروج السوري على أفضل وجه وبعيداً من الانقسام الداخلي.
والواقعة الثانية، انّ انزلاق الحزب إلى مواجهات داخلية أضعف صورته العربية والإسلامية. فقبل العام 2005 كانت صوره في كل أنحاء العالم العربي، وبدأ هذا الواقع يتراجع تدريجاً مع انغماسه في الانقسام اللبناني الداخلي.
والواقعة الثالثة، انّه لا يمكن لمجموعة طائفية في لبنان ان تستأثر بالقرار السياسي على حساب المجموعات الأخرى، بمعزل عن قوتها وحجمها ودورها، وهذا ما يفسِّر قدرة النظام السوري على إدارة لبنان وفرض الاستقرار داخله، فيما «حزب الله» لم يتمكن ولن يتمكن من ذلك.
ـ سابعاً، المصلحة العليا لمحور الممانعة تستدعي ضرب عصفورين بحجر واحد: إخراج «حزب الله» من معمعة النزاع الداخلي اللبناني عن طريق تفرغه بدوره المقاوم، وإعادة النفوذ السوري إلى لبنان لاعتبارين: لأنّ لبنان يُحكم من دولة خارجية وليس من مجموعة طائفية لبنانية، ولأنّ استمرار النظام السوري يتطلّب إمساكه بالورقة اللبنانية.
ـ ثامناً، وصلت عواصم القرار الغربية والعربية إلى الخلاصة نفسها التي وصلت إليها في العام 1990، بأنّ لبنان لا يُحكم من الداخل، إنما يُحكم من الخارج، والدليل الفشل المتمادي منذ خروج الجيش السوري وصولاً إلى الانهيار الحالي والعجز عن تشكيل حكومة، فيما الوضع المالي والاقتصادي اللبناني كان في أفضل حالاته في الزمن السوري الذي حافظ على الاستقرار المالي والسياسي والأمني. وبالتالي، الفشل الدولي في تأليف حكومة والقرف من القوى السياسية يشكّلان دافعاً بأنّ لا حلّ للأزمة اللبنانية سوى بإدارة خارجية.
ـ تاسعاً، يترافق الفشل اللبناني في توفير الاستقرار المالي وتعريض البلد للفوضى وخطر تمدّدها على مستوى المنطقة، مع المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران، والمباشرة بين الرياض وطهران، ويستحيل الوصول إلى استقرار في المنطقة من دون الاعتراف بدور إيراني متقدِّم، والذي مدخله الورقة اللبنانية بإدارة سورية وموافقة غربية وعربية.
ـ عاشراً، لن يكون هناك من اعتراض دولي ومسيحي في حال أُعطيت ضمانات سياسية للفاتيكان وغيره، بعدم المس بالشراكة والتوازن والدستور، مع فارق هذه المرة انّ الرعاية لا تستثني اي فريق سياسي، خلافاً لما حصل في تسعينات القرن الماضي.
ما مدى دقة وجهة النظر أعلاه؟ وهل صحيح انّها مدار بحث داخل أروقة 8 آذار؟ وهل هناك من يعتقد او يراهن انّ في استطاعته إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتغليف الوصاية الجديدة بغلاف «جميل»؟ وهل من يعتقد انّ النظام السوري غير القادر على حكم سوريا، في استطاعته ان يحكم لبنان مجدداً؟ وهل اللبنانيون الذين انتفضوا لحريتهم في 14 آذار و17 تشرين في وارد القبول بوصاية خارجية؟ وهل لبنان والشعب اللبناني ورقة ساقطة ومعروضة للبيع؟ وهل من يعيد تكرار خطأ العام 1990 في الداخل والخارج؟