صبيحة عيد الفطر، فتَّشت على يده، طرقتُ رخامة قبره، أصلح من جلسته، فاسترجعها كعادته وبكى، ومن ثَمَّ أشار نحو السماء وغفى...
هكذا تُطوى السماء طيّ السِّجل للكتب والكتاب، ولعلَّ قبض الأجنحة إخفاء سرٍّ يطوي رحلة الوجد في سراديب الوجع، لتبقى فسحة الفضاء نشر صفحات يتلوها من يخلق من السراب ماء...
وهكذا تُروى الأرض، فينبت الورد والريحان ويزهر التبغ، ونستاف تراب وردك وورودك، ونشتم بعضاً من صمتك الأخير، حروف الأمانة والأدب، والإستقامة والأخلاق، والبذل والعطاء، حتى الفناء...
في ذكراك... ترهقنا الذكرى، ونمسي كما الحطَّاب في غابة الأرز، يدفعه فقره إلى قطع شجرة، تمنعه عيناه من قتل جمال ما رأت...
في ذكراك... نقرأ سطور وجهك، وفي راحتيك حيث ينام ملاك، وعلى ساعديك يصحو ملاك، وعلى شفتيك سُبَّحة صوفية بعيدة الصدى، وخلف عباءتك ظلالٌ وراف، وعمامةٌ توخَّاها حب الوطن والإنسان...
في ذكراك... نحاول أن نتعلَّم من صمتك لغة الأرض، لتروي عطش التبغ، ونياط القلب، وشغف الروح.. وأن نزن الحياة والموت بميزان كفِّيك، لنعرف قلَّة الأحياء وكثرة الأموات... في ذكراك... نسكب ما تبقِّى من دواة العين، ومن حبرٍ على ضريح الورد، ونفتح من خصائص القبر نافذة على الحياة التي لا يعرفها إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم..
لأنك الحبيب، فأنت أنت، أقرب المسافات من القلب إلى القلب، أحاول أن أرثي نفسي الضائعة بين إمارة وأمارة، وأن أهرب منها إلى رحمةٍ تنجيني من عذابٍ أليم، وعلى قارب نجاة من خشب الفلاحين المحرومين، والمزارعين دمعاً من شمع أصابعهم، وشراعاً من أشرعة الوطن.
ها نحن.. على مهلٍ نبحر خلف نعشك المسافر، وفوقنا سماء من النوارس المهاجرة إلى شواطئ الإطمئنان... فربما يصحو الأحياء الموتى إذا ما انتبهوا، وربما يظن الأحياء أنهم يشيعون الموتى ولا يدرون أن الأموات الذين يظنونهم نائمين في الصناديق هم الذين يحملون نعوشهم.. والبعض منهم يعتبر المقابر حيث تتواجد اللحود والشواهد ورميم العظام ولا يعلم أن المقابر هي مدن الفقر وأحياء الجهل وأوطان الغربة..
عذراً منك، إن غفا الحبر وخبا وهج جمرنا، وأنت متوسِّد بُرْد التراب مع أجدادك الطيبين الطاهرين، فهذا بعض من العزاء الذي يفرك وجه الموت ليبتسم القلب من فم ما تركت من فكرٍ وعلمٍ وأدب... رحمك الله وتغمدك بواسع الرحمة..... الشيخ عباس حايك