لِلإصلاح والإصلاحيّين في لبنان تاريخٌ مِن الخَيبات والأحلام المَكسورة. قَد يَختلِف اللبنانيّون على الكثير، إلّا أنَّهم يتَّفِقون على أنَّ الفَشَل يَنسَحب على مُعظَم مُحاولات الإصلاح وعلى تَهميش "الإصلاحيّين". فَما الذي يَجعل هذا النِظام قادِراً على إجهاض مساعي التَغيير البَنّاءة؟ لماذا الإخفاق والعَجز سِماتٌ تَطبَع السياسة والاقتصاد والاجتماع، فيَعيش البَلَد ترَهُّلاً يَرميه على تُخوم الرَثاثة والتَخَلُّف؟ كَيفَ انتَهَتْ بِنا الأُمور شَعباً يَلهَث وراءَ لُقمَة العَيش وأبسَط مُقَوِّمات الحياة؟
بَعيداً عَن مُنطَلَقاتٍ "رومانسيّة" للسَرديّات التاريخيّة التي قد يختَلِف أو يَتَّفِق عليها اللبنانيّون، إلّا أنَّ لنا في مَسيرَتِنا الوَطنيّة مَحطّات تمَرُّد ومُحاولات إصلاحيّة متفَرِّقة، غَيرَ أنّ مَن حَمَلوها اضطُّهِدوا أو هُمِّشوا وتُرِكوا أصواتاً مُفرَدة وَسْطَ صَخَب اوركسترا الفَساد والإفساد وعَدَم الكفاءَة والإدِّعاء الفارِغ.
مِنْ ثَورة الفَلّاحين التي قادَها طانيوس شاهين سعاده عام 1858 إلى حَرَكات التَحَرُّر قَبل الحَرب العالميّة الأُولى وخِلالَها وبعدَها، تَبَلوَرَ كثيرٌ مِن الافكار التَقَدُميّة، ساهَمَ فيها مُفَكِّرون كِبار في لبنان والمَهجَر، وصولاً الى مُنَظِّري الفِكرة اللبنانيّة في مَرحَلة إعلان دولة لبنان الكبير. وكان لِأوَّل دُستور للبنان عام 1926 أبعادٌ إصلاحيَّة جَريئة مُتعدِّدة الأوجُه، وطابَعٌ مَدَنيٌّ عَصريٌّ نِسبَةً إلى زَمانه. لكِنَّ تَقدُّميَتَه أخذَت تَتراجَع وَسْطَ عَجز غَير مُبَرَّر عَن تَطويره، فتحَوَّلَ أكثَر طائِفيّةً في مُنتَصف القَرن الماضي وأكثَر مَذهَبيّةً بالمُمارَسة مُنذ تَعديلات "الطائف" عام 1989.
لَقَد أثبَتَ النِظام السِياسي والاقتِصادي قُدرَةً كبيرة على إجهاض المُحاولات الجَدِّية لتَحديثِه، وتمَكّن على امتِداد مِئة سَنة، مِن تَقليم أظافِر مُعظَم مَن تَجَرّأَ وقام بِها.
قَد تكون تَجرِبة الرئيس فؤاد شهاب الذي عُرِفَ عَنه إلتزامُه بـ الكتاب"، الأكثَف في تَحقيق خُطوات اصلاحيّة. مُطمَئِنّاً إلى تَوازن مَقبول في سياساتِه الخارجيّة، أدخَل إصلاحاتٍ اقتِصاديّة واجتِماعيّة بُنَيويّة، وأقَرّتْ حُكُومات عَهدِه تَشريعاتٍ جَريئة وبَنَتْ مؤسَّساتٍ عَديدة واعتَمَدَت الإنماء المُتوازن فِعلاً لا قَولاً؛ وشَهِدَت سَنوات حُكمِه إستمراراً للنَهضة الاقتصاديّة والفنيّة التي عَرِفها لبنان في عَهد الرئيس كميل شَمعون. مَع ذلك، تكتَّلت ضِدّ الرئيس شهاب قِوى سياسيّة نادِراً ما كانَت تلتَقي حُولَ أهدافٍ مُشتَركة، فسَقطَتْ لائحَتُه الانتخابيّة في عُقرِ دارِه في كِسروان عام 1968 واكتَسَحَتْ لوائح الحِلف الثُلاثي المَناطق ذات الغالبيّة المَسيحيّة. تَكرَّسَ انتِصارُها، مع حُلَفائِها، على الشِهابيّة في الانتخابات الرئاسيّة عام 1970 بفارِق صَوت واحِد.
ضُرب شهاب "مِن بَيت أبيه"، تَماماً كَرَجُلَين إصلاحِيَّين آخرَين، هُما حَميد فرنجيّه وموريس الجميّل، اللذَان كانا جَديرَين برِئاسة الجُمهوريّة لَولا تَخَوُّف السياسيّين التَقليديّين مِن كَونِهما أصحابَ فِكر ورؤيّة ويَملُكان جُرأة المُبادَرة.
في السِياق نَفسه، تَجدُر الإشارة إلى تَجرِبة كمال جُنبلاط الذي، مُنذ بِداياته طالِباً في مَدرَسة عينطوره، عُرِفَ بِمَناقِبيَّتِه وجَدِّيَتِه ونُبلِه. وحِين أسَّسَ حِزباً، تَوافقَ مَع رِفاق له مِن مُختَلِف الطوائِف، على مَبادئ وطنيّة وإنسانيّة جامِعة. لَكِنَّ مطحَنة الدولة العَميقة جَنَحَت بالحِزب ليتَحَوَّل الى المُمَثِّل الأبرَز لمُكوِّن مَذهَبي أساسي في بُنية لبنان، وإنْ مَع بَعض الطُروحات الإصلاحيّة بَين فَينَةٍ وأُخرى.
واستَمَرَّ جُنوح سفينة الإصلاح... فمَثلاً، في أوائِل السَبعينات، خُنِقَتْ المُحاولَة الإصلاحيّة الجَريئة لوَزير الماليّة الدكتور الياس سابا في مَهدِها. يَومَ صَدَر في 15 أيلول 1971 المَرسوم رقم 1943 القاضي بِرَفع الرُسوم الجُمرُكيّة على 545 سِلعَة كماليّة، لها بَديلٌ مُنتَج مَحَلّياً، أضرَبَ التُجّار لتِسعَة أيّام وضَغطوا على السِياسيّين، فَوَقَّع ثُلثَا النوّاب عَريضة للمُطالبة بإلغائه. اُسقِطَ المَرسوم في مَجلِس الوزراء، وثلاثة وزراء فقَط صَوَّتوا للإبقاء عليه هُم الياس سابا وإميل بيطار وجَعفَر شرَف الدين.
لَو تَمَسَّكت تِلكَ الحُكومة بالمَرسوم، لَكانَتْ بَعضٌ مِنَ الأسباب والتَبريرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للحَرب التي اندَلَعَت بَعد سَنَوات، قَد انتَفَتْ، ولَكانَ المَشهَد الاقتِصادي في لبنان مُختلِفاً. فَعِوَضَ أن يَزداد الإنتاج وتَكثُر فُرَص العَمَل وتتَوَسَّع وتتَنَوَّع في المَناطق والأطراف، نَتيجَة إجراءات ذاكَ المَرسوم، هاجَرَ الآلاف. وبَعدَما كانَتْ نِسبَة الصادِرات السِلَعيّة تُراوِح ما بَين 60% و 70% مِن الاستيراد في تِلكَ الفَترة، التي تَمَيّزت كذَلك بازدِهار السياحة وتنامي الخَدَمات، ضَمُرَ بَعدئذٍ الإنتاج. أخَذت تِلكَ النِسبَة تتَناقَص إلى أنْ وَصَلنا في السَنَوات الأخيرة إلى ما بَين 15% و 20% ، تُرجِمَت خِلال الأعوام 2017 الى 2019 عَجزاً تِجاريّاً سَنويّاً قارَب الـ 16 مِليار دولار هو أحَد الأسباب الاساسيّة للإنهيار الحالي.
تَبِعَ ذَلِك، مَعرَكَةُ الدَواء التي حَمَل لِواءَها وَزير الصِحّة آنذاك الدكتور إميل بيطار، واضِعاً خُطّة مُتَكامِلة لِتخفيف الأعباء على الناس، واجَهَها إحتِكارِيّو القِطاع وأسقَطوا الخُطّة، فَقَدَّم الوزير بيطار استِقالتَه بِتاريخ 24 كانون الأوّل 1971.
جاءَتْ الحَربُ بأسبابِها المُتَعَدِّدة والمُتَقاطِعة لِتُتَوِّج تَراكُماً مِنَ التَراخي و"الفَساد" السياسي والاقتصادي والاجتماعي. حَربٌ كانَ أمكنَ تجَنُّبُها لَو أحسَن اللبنانيّون صِياغةَ أولَويّاتِهِم في السيادة والاقتصاد، وتَطبيقَ إصلاحات بُنيَويَّة لتَحديث الدَولة ومؤسَّساتها وتَطوير المُجتَمع. في تِلك الحِقْبَة، أُقصيَ الإصلاحيّون وسادَت لُغَة الحَرب التي تُعَطِّل كُلَّ مَنطِق وازدِهار وتَقَدُّم.
بَعدَ تِلكَ السَنَوات القاحِلة، أتَتْ مَرحَلَة ما سُمِّيَ "إعادة الإعمار". مِن أخطائِها، إقصاء الوزير جورج افرام الذي مُنيَتْ مُحاوَلَتُه بإصلاح الكهرَباء عام 1993 بضَربة قويّة للقِطاع وللإصلاحيّين. عَمَدَ رئيسا الجُمهُوريّة والحُكومة حِينها إلى إقصائه و"إعدام" خُطَّته، فأُقيل الوزير افرام النَزيه والكَفوء، واستُبدِل بِوَزير غَير إختِصاصي. ثُبِّتَ سِعر الكَهرَباء مُذّاك، وجَرَت عَرقَلَة أيّ مُحاولَة جَديّة لإصلاح هَذا القِطاع الحَيَوي، فاستَفاد مِن حالَتِه المُهتَرِئة على مدى عُقود، اوليغارشيّون مُتَعَدِّدو المَذاهب، على حِساب الماليَّة العامّة والشَعب اللبناني. تَحَوّل قِطاع الطّاقة إلى عِبءٍ ثَقيل على الاقتصاد بَدَل أن يكون رافِعةً له، وأحبَطَتْ المُناكَفاتُ السياسيّة تَطبيق أيّ حُلول جَذريّة.
لاحِقاً، حاوَل وزير الماليّة السابِق الدكتور جورج قُرم تَطوير النِظام الضَريبي المُفتَرَض أنْ يَكون أداة لِلدَولة في تَوجيه الاقتصاد بالإضافة الى تأمين مُعظم إيراداتِها. نَجحَ في أواخِر العام 2001، في إعتِماد ضَريبة على الاستِهلاك، هي الضَريبة على القيمة المُضافة وإنْ بمُعَدّلات مُنخَفِضة نِسبيّاً؛ والمُفارَقة أنَّ مَنْ عارَضَه في حينه تَبَنّى لاحِقاً القانون. ولِكي لا تَبقى هذه الخُطوة الإصلاحيّة يَتيمة، حاول الوزير قُرم إدخال إصلاحات بُنيَويّة عدّة على الماليّة العامّة وقوانينِها، أفشَلَتها مَنظوماتٌ عابِرة للطوائِف والأحزاب. هذه المَنظومات المُتَجَذِّرة في الدَولة العَميقة، حَدَّتْ مِن انِدفاعة سياسيّين حَمَلوا في جُعبَتِهم أفكاراً إصلاحيّة، كسَليم الحصّ وزياد بارود وشربل نحّاس وآخرين، كُلٌّ على طَريقَتِه وأُسلوبِه.
هَذه خَيبة شَخصيّة ووطنيّة مُوجِعة، رَسَّخَتها تَجربتي في وزارة الاقتصاد والتجارة. ولعَلّ مُحاولات إحباط قانون المُنافسة الذي أنجَزتُه عام 2019، اللاجِم للاحتِكارات والمُحفِّز للاقتِصاد الحُرّ، أحَد وجوهِها الفاقِعة. هِي خَيبةٌ بدَأتُ تَلَمُّسَها عند مُشاركتي في لَجنة صياغة البيان الوزاري. فَفي 6 شباط 2019، قدَّمتُ للَجنة وَرقة تتضَمَّن افكاراً للإصلاح الاقتصادي، لَمْ يؤخَذ مِنها إلّا اليَسير، إمّا لتناقُض الأولويّات أو لِجَهل عُمق المَشاكل الاقتِصاديّة والماليّة وتداعياتِها.
وبَعد أن طالَبتُ بِبَحث الأزمة الاقتصاديّة في مَجلِس الوزراء، آثرَ رئيس الحكومة تأجيل المَوضوع، فَعَقَدتُ مؤتَمَراً صُحُفيّاً بتاريخ 4 نيسان 2019 لِإطلاع الرأي العام على خُطورَة الوَضع الاقتصادي والمالي. سألتُ عن حِسابات مَصرِف لبنان وعَن المَخفي مِنها لسَنَوات. طالَبتُ بالشفافيّة وبإعطاء الاولَويّة لِمُعالَجة الأزَمات التي كانَت تُضَيِّق الخِناق على البَلَد والناس، وبادَرتُ إلى طَرح مَجموعة حُلول كمُنطَلَقٍ للمُعالَجة. توَحَّد المُتخاصِمون ضِدّي. هاجَمَني سياسيّون وإعلاميّون لمُجَرَّد طَرحي بَعض الأسئِلة المُحِقّة والبَديهِيّة، وكأنَّها مِن "أسرار الآلهة"، وتَنَكَّرَ لي حتّى بَعضٌ مِن "أهل البَيت". لاحِقاً، تكَشَّفَتْ الحَقائِق لِيَتبَيّن أنَّ ما سألتُ عَنه كان نُقطةً في بَحرِ الفَساد والتَضليل والإجرام المالي المَسكوت عَنه لسِنين طويلة.
حاوَلتُ مُجدَّداً. رَفَعتُ إلى مَجلِس الوزراء في 30 نيسان مُلاحظاتي على مَشروع موازَنة 2019 التي لَمْ تَكُنْ تَرتقي للمُستوى المَطلوب، مُقتَرِحاً حُلولاً للإصلاح المالي والنَقدي. لَمْ يتَغَيّر شَيء. غاصَت الحُكومَة في مُناقشات عَقيمة على مَدى أربَعة أسابيع فيما مؤَشِّرات الإنهيار المُتسارع تَتَراكم.
تزامُناً، حاوَلتُ بالتَنسيق مع وزير الصِناعة وَضع كَوابح لاستيراد سِلَع مُنافِسة لمُنتَجات مَحَلِّية، فتَبَنَّته الحُكومَة بَعدَ مُثابرة وإصرار؛ لَكِنَّ تَطبيقَ قرارِها بَقيَ عالِقاً بَين المَجلِس الأعلى للجَمارك والإتِّحاد الأوروبّي ومَجلس الجامعة العَربيّة.
في أواخر آب 2019، شَكَّلتُ بِطَلبٍ مِن رئيس الجُمهوريّة، فريقاً مِن اقتصاديّين لَدَيهِم خَلفيّات سياسيّة وتَوَجُّهات اقتصاديّة متَنوِّعة. تَوافَقنا على وَرَقة اقتصاديّة لِمواجَهة الأزمة ومَنع الإنهيار الكبير. طُرِحَتْ الوَرَقة في اجتِماع دعا إليه رئيس الجُمهوريّة في 2 ايلول 2019 وحضَره كُلّ رؤساء الكُتَل النيابيّة. غادَر المُجتَمِعون مِن دون إتفاق، إمّا لإعتِبارات سياسيّة أو لعَدَم إحاطَتِهم بمَدى خُطورة الاحوال التي كانت تعكِسُها الأرقام والوقائع. أُجهِضَتْ الوَرَقة الإصلاحيّة وحَلّتْ مَكانَها إجتِهاداتُ الأحزاب "واستِعراضاتُها الإصلاحيّة"، فاختَلَط حابِل الإصلاح بِنابِل الصِراعات. تَلا ذَلك إنتفاضة 17 تشرين التي أربَكَتْ الجَميع وجَرفَت مَعها بُذور تِلكَ المُحاولات الإصلاحيّة.
ولِإنصاف حُكومَة الرئيس حسّان دياب، رُغمَ إخفاقاتِها المُتعدِّدة، فقَد أقَرَّتْ في 30 نيسان 2020 خُطّة للتَعافي المالي وافَق عليها صُندوق النَقد الدَولي، لَكنَّها أُجهِضَتْ وازدادت الأمور سوءاً. لا تزال هذه الخُطّة بجوهَرِ طُروحاتِها صالِحة، وإنْ كانت تَحتاج إلى تَعديلات تَتَناسَب مع التطَوُّرات التي استَجَدّتْ في خِلال سَنة. كما يُسَجَّل لحُكومَة دياب أنَّها أقَرَّتْ في 26 آذار 2020 إجراء التَدقيق الجِنائي في حِسابات مَصرِف لبنان حَيثُ يُراهِن بعضُهُم على تَمييع هذا الملفّ وطَيّه أو عَلَّ التَسويات تَفرِض عَفواً عَن الجَرائم الماليّة مُشابِهاً للعَفو العام عَن جَرائم الحَرب.
أزمَاتُنا العَميقة والمُعَقّدة تستَدعي بَحثاً خارج الأُطُر التقليديّة لكَسر حَجَر الرَحى الذي يطحَن مُحاولات التغيير والسَير نَحو دولة مَدَنيّة، عِلمانيّة تَعتمِد نِظاماً موَحِّداً للأحوال الشخصيّة، ديمقراطيّة، لامَركزيّة، مُؤَنسَنة تُقِرّ أنظِمة الحِماية الاجتماعيّة والرِّعاية الصِحِّية، مُنفتِحة على كُلّ الأفكار الإصلاحيّة لِصالح مُجتَمَعها.
لا يَخلو لبنان مِن إصلاحيّين كُثُرٍ، مُتَعَدِّدي الإنتِماءات السياسيّة والفكريّة وفي كُلِّ مَجالات الحَياة العامّة، ناضَلوا بالكَلِمة والمَوقِف، إلّا أنَّ تأثيرَهُم بَقي نُخبَويّاً. ومَرَّةً تِلوَ أُخرى، تَطحَنُ الدولة العَميقة أبناءَها الإصلاحيّين وتُراكِمُ خَيباتِهِم. قَد ينسَحِب ذلك أيضاً على إنتِفاضة 17 تشرين التي شاءَت التَمرُّد على واقِع عَقيم مُترسِّخ مُنذ عُقود. لَكِنَّها فَشِلَت في إنتاج مَشروع إصلاحي وفَرز قيادة مُتجانسة تَستقطِب العديد من اللبنانيّين. وجاء شِعارُها "كلُّن يَعني كلُّن" مُجحِفاً بِحَقّ الإصلاحيّين غَير المُنضَوِين إلى مَجموعاتِها.
لَنْ أتحدَّث عَن تَجربة الرئيس ميشال عون وتَبَنّيه الكثير مِن الأفكار الإصلاحيّة وإصرارِه على تَنفيذها. ففي خِضَمّ الأحداث وزمَن العَصبيّات والإصطِفافات، يُصبح كُلُّ كلام مُتَوازن ومُنصِف رَميَةً مِن غَير رام ٍ. لِذا، أترُك تجربَتَه الكبيرة للتاريخ ليَحكُم عليها وعلى ظُروفها.
يَعتَقد كثيرون أنَّ النِظام اللبناني، بتَركيبَته ومُكوِّناته، عَصيٌّ على الإصلاح. يَستنِدون إلى سَنَوات طويلة مِن التجارب المُرَّة سادَ فيها مُثَلَّث عَدَم الكفاءَة والفَساد والتَبَعيّة في السياسة والاقتصاد. فمُنذ الاستقلال، والنِظام يوَلِّد الأزَمات المُتَناسِلة، مِن ثَورة 1958 إلى أزْمة 1969 وُصولاً إلى حُروب مُتَتالية إبتِداءً مِن 13 نيسان 1975.
كَأنَّه مَكتوبٌ على اللبنانيّين أنْ يُطحَنوا كُلّ خَمسة عُقود إمّا بالحُروب أو بالفَقر والجُوع.
فَفي سِتّينيّات القَرن التاسِع عشَر، طُحِنوا بأحداث دَمويّة مذهَبيّة نَتَج منها تَدَخُّل الدوَل وإقامة نِظام المُتَصرّفيّة. وبَعد خَمسين عاماً، طحَنَتهُم إبّان الحَرب العالميّة الاولى مُجاعة كُبرى يستَحضِرها اللبنانيّون اليوم في أحاديثِهم، وَسطَ إنهيارات اقتِصاديّة مُريعة تَتَسَبّب بإفقارِهم وهِجرَتِهم بَحثاً عَن حَياة كَريمة خارج وطَنِهم. ومَعَ ذَلك، قناعَتي راسِخَة بأنَّ الفَشَل لَيس قَدَراً وبِأنّ الإصلاح مُمكِن.
لِنَتَحرَّر مِن أثقال انقِساماتِنا الطائفيّة والمَذهبيّة، ولنَتَجَرَّأ على الالتِقاء حَول مَشروع وَطني إصلاحي، فلا يَبقى الإصلاح مَحصوراً بأفراد يَمُرّون كشُهُبٍ سُرعان ما تَنطَفئ.
لِنَلتقي حَول بِناء دولة الموَاطَنة والقانون، دولة مَدَنيّة عِلمانيّة ديمقراطيّة، أركانُها عَدالة اجتِماعيّة وتوازُن اقتصادي وسِيادة وطَنيّة غَير مَنقوصَة، دولَةٌ تَفتَح لأبنائها أبوابَ الإنتاج والإنجاز لتُقفِل أبوابَ اليأس والهِجرة.
منصور بطيش