لم تكن سلسلة المناورات الاسرائيلية التي قيل إنّها لمواجهة «حزب الله» و»حماس» تحاكي ما حصل ما بين غزة وتل أبيب. وإن كان فهم ما جرى ينتظر اثبات من فجّرها، فإنّ توقيتها تزامن معها، فجمّد النظري منها لتنتقل الى الواقع الذي كان محتسباً، ربطاً بمفاوضات الملف النووي في فيينا. وإن ساد اعتقاد انّ «تسوية اليمن» في بغداد أسرع، فلماذا سبقت أحداث غزة هذه التسوية؟
قد تكون المرة الاولى التي تتحول فيها مناورات بُنيت على سيناريوهات مرتقبة كالتي كانت تقوم بها اسرائيل منذ 9 ايار الجاري حرباً حقيقية بين ليلة وضحاها، فسقطت المحاكاة المفترضة ووجدت إسرائيل نفسها أمام تجربة عملية، ليس واضحاً إن كانت تريدها في توقيتها وشكلها ومضمونها وربما في أهدافها.
وعليه، يمكن القول انّ ما يجري منذ يومين من عمليات عسكرية، استُخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة في القصف المتبادل بين قطاع غزة وتل أبيب، وما يسمّيه الإسرائيليون «غلاف القطاع»، قد أنهى ما كان متوقعاً من احتمالات لشكل المواجهة المرتقبة وحجمها، مع فصائل القطاع، والتي بُنيت عليها المناورات المحتملة، ليواجه الاسرائيليون واقعاً جديداً أثار كثيراً من المخاوف على الاستقرار الداخلي.
وإن كان واضحاً انّ إسرائيل لم تقدّر زمن وقوع ما يجري منذ أيام في شكله وتوقيته مع غزة، فإنّ ما جرى من حرب، أسقط عن المناورات الجارية أهميتها «الاستباقية»، وأسقط اجهزة استخباراتها في خطأ جسيم، يمكن ان يمرّ في اي دولة أخرى ما عدا إسرائيل. فما تسببت به الجولة الجديدة من العمليات العسكرية من اهتزاز في الجبهة الداخلية احتُسب سلباً، الى حدّ الجريمة، لعدم ترقّب اجهزة استخباراتها ما جرى، وستكون موضع تحقيق فعلي فور الانتهاء منها، كما تهدّد بعض اطراف المعارضة في اسرائيل، التي بدأت تستذكر بأعلامها، ما دفع الى تشكيل لجنة «فينوغراد» للتحقيق، وخصوصاً انّ البلاد تعيش في قلب الأزمة الحكومية، رغم عدم وجود اي انعكاسات سلبية على شؤون الأمن والجيش في الداخل والخارج والمؤسسات الامنية التي تعمل باستقلالية تامة، وخصوصاً في حالات الطوارئ.
وعليه، تعترف المراجع الديبلوماسية والعسكرية، انّه ليس مقبولاً بالنسبة الى المواطنين الإسرائيليين القاطنين في عمق المناطق السكنية في البلاد النزول الى الملاجئ مرة أخرى. وترك ما لديهم فوق الأرض في عهدة القوى الامنية والشرطة المدنية والبلديات التي تدير الشؤون الداخلية لهم. فبعدما توسعت رقعة العمليات العسكرية الى النطاق الذي طاولته صواريخ غزة، سيكون لما تعرّضت له مدنهم من اضرار، وما عكسه تعطيل أعمالهم، نتائج سلبية كبيرة. وما سيزيد في الطين بلّة، ما شهدته المدن والقرى المشتركة مع السكان الفلسطينيين من «عرب الـ 48» حسابات أخرى في العقل الاسرائيلي. فهم، وبعد صعودهم من تحت الارض، سيكتشفون حجم الأضرار التي لحقت نتيجة القصف الصاروخي، يُضاف اليها اعمال الحرق التي طاولت أكثر من كنيس يهودي وسيارات مدنية ومنشآت مختلفة واكثر من مقر للشرطة الاسرائيلية، كما حصل في اللد ومناطق مختلفة. هذا عدا عن نتائج إقفال مطاراتها الحيوية في عمق المدن الآمنة، ووقف استخدام شبكة أنابيب الغاز الداخلية التي اصيبت مباشرة بالصواريخ، بما يؤدي الى اعتبار ما يجري حرباً تجري للمرة الاولى بطريقة لا يعرفها الداخل الإسرائيلي من قبل، رغم جولات العنف السابقة مع قطاع غزة ومحيطه.
وامام الواقع الجديد الذي شهدته اسرائيل ربطاً بأهداف مناوراتها، سيبقى السؤال مطروحاً حول مصير الوجه الثاني منها. فهي كانت تحاكي في جزء منها حرباً مع «حزب الله» على الجبهة الشمالية. وفي انتظار ما ستحمله الأيام المقبلة، فإنّ عدداً من التقارير الديبلوماسية والاستخبارية العاجلة، تطابقت مع ما هو متداول من معلومات في بيروت، وهي تؤكّد استبعاد ان يشارك «حزب الله» في اي عمل عسكري تحت اي عنوان، على الأقل حتى كتابة هذه السطور امس. وهو أمر ثابت على الرغم من الدعوات التي أُطلقت من مواقع مختلفة ومن طهران بالذات، على ألسنة بعض المسؤولين الايرانيين الذين تحدثوا عن جهوزية صواريخ «حزب الله» إن طلبت غزة الدعم والتدخّل. وعليه، فإنّ احتمال تحول المناورات الوهمية المجمّدة في شأن المواجهة مع «حزب الله» حرباً شبيهة بتلك التي تشهدها غزة، مؤجّلة الى اجل غير مسمّى. فالستاتيكو القائم منذ التاسع من ايار الجاري، تاريخ بدء المناورات، ما زال على حاله، باستثناء رفع نسبة الاستنفار فور بدء العمليات العسكرية في اليومين الماضيين.
وما هو ثابت حتى اللحظة، انّ «حزب الله» لم ولن يُقدم على اي خطوة تزيد عن إعلان حال الاستنفار في الجنوب ومواقعه المختلفة. فباستثناء الحملات لجيشه الالكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات «الواتس آب»، فإنّ هدوء مناطقه في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت يمكن التوقف عنده بعناية واهتمام، في ظلّ التحركات الشعبية التي شهدتها مناطق أخرى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما شهدته الطريق الجديدة في الساعات الماضية نصرة لغزة ورفضاً للعمليات العسكرية ضدّها.
وبعيداً من كثير من التفاصيل، تجدر الإشارة الى انّ التقارير الديبلوماسية لم تشر بعد الى من اراد ان تتطور الحال في غزة إلى ما هي عليه اليوم. فالجدل ما زال قائماً بين ان تكون اسرائيل هي من ارادت هذا التطور السلبي، وعندها ستكون قد ارتكبت خطأ استراتيجياً. فهي تصرّ منذ فترة على ان تبقى أراضيها خارج كل أشكال النزاع الدموي مع اعدائها. وهي تترقب ما يجري في بغداد من مفاوضات سعودية - ايرانية، قيل انّها خُصّصت لترتيب وضع اليمن ووقف الحرب فيها. كما في فيينا، حيث تجري المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، وفي الحالتين، كانت قد أعلنت حرباً ديبلوماسية في الإتجاهين.
ومع استبعاد وجود قرار اسرائيلي في هذا الاتجاه الخطير، توجّهت الانظار الى ان ما حصل كان بقرار إيراني، ارادت منه طهران كثيراً. فهي تحتاج الى الوقت المناسب للردّ على ما شهده الداخل الإيراني من عمليات تخريب في مواقعها النووية الحساسة، كما ارادت الردّ بقساوة على اغتيال أب القنبلة النووية محسن فخري زادة مطلع السنة الجارية، وبقية العمليات التي نُسبت الى اسرائيل. وربما رداً على مقتل قاسم سليماني قبل ذلك، وهي وجدت بفتح حرب داخل الاراضي الاسرائيلية وعلى أبواب عاصمتها الاقتصادية تل ابيب متنفساً للردّ على كل هذه العمليات دفعة واحدة.
وعليه، لا يمكن ان يتجاهل المراقبون العسكريون وهواة التقارير الاستخبارية ترجيح نظرية وجود قرار ايراني بما حصل، ارادت منه طهران ان تُفهم الجميع انّها لا تفاوض على القطعة ما بين فيينا وبغداد. وهي تريد حلاً شاملاً يبدأ بتخفيف العقوبات عليها قبل التقدّم في ملفها النووي، وترفض التسوية في اليمن، التي اعتقد البعض أنّها ستكون على الأبواب، فانفجرت في غزة قبل اي حديث عن اي تسوية في اليمن. ونقطة عالسطر.
ايران لا تريد ان تفاوض على القطعة ما بين فيينا وبغداد وتريد حلاً شاملاً يبدأ بتخفيف العقوبات عليها.