السلطة الاسرائيلية التي بدت وكأنّها تستخفّ بالفلسطينيين ذهبت بعيداً وبلا خجل في لعبة انتزاع الارض والبيت في القدس. والواضح ان الدعم غير المشروط الذي نالته إسرائيل من ادارة دونالد ترامب جعلها تعتقد فعلاً أنها قادرة وبسهولة على ابتلاع ما تبقى من فلسطين وخصوصاً القدس. لم يكن امام الفلسطينيين من سبيل سوى التصعيد، وإلا فإنّ السكوت كان سيعني انتهاء قضيتهم الى الابد.
لكن اسرائيل التي استخَفّت بردة الفعل الفلسطينية، فوجئت بالقدرات العسكرية لغزة وبغزارة الصواريخ التي أطلقت وطاولت تل ابيب للمرة الاولى.
من الواضح أنّ المقاومة الفلسطينية كسرت قواعد اللعبة بعد إنذارها اسرائيل بسحب قواتها من المسجد الاقصى. لقد اصبح زمام المبادرة العسكرية في يد الفلسطينيين بعد ان كان سابقاً في يد الاسرائيليين. هي حرب حقيقية ادت الى تكثيف الغارات الجوية على قطاع غزة، لكن قواعد اللعبة تغيرت بعد ان توقفت الملاحة الجوية الاسرائيلية ونزول الاسرائيليين في دائرة جغرافية واسعة الى الملاجئ، والاهم استهداف البنية التحتية لخط ايلات ـ عسقلان لنقل النفط، والذي يعد من اهم المشاريع الاستراتيجية لتطوير مكانة اسرائيل وتحسين اوضاعها الاقتصادية. فإصابة هذا الخط تعني انّ المقاومة الفلسطينية باتت تمتلك صواريخ دقيقة تجعلها قادرة على اصابة اهدافها بدقة، وهذا يعتبر تطوراً نوعياً في موازين القوى.
وفي منطقة النقب توجد اهم المطارات والقواعد الجوية العسكرية، والتي تستقبل الطائرات الاكثر تطوراً. وهو ما قد يعني انّ هذه الصواريخ الدقيقة قادرة على اصابة هذه القواعد ما يهدد القدرة العسكرية الجوية لإسرائيل. الانطباع الاول انّ جهاز الشاباك فشل في تقييم رد الفعل الفلسطيني، خصوصاً انّ المواجهات حصلت داخل كثير من البلدات في الضفة الغربية. وظهر القصور في المعلومات الاستخباراتية مع ظهور انواع جديدة من الصواريخ في غزة، وهي التي استخدمت في قصف المناطق المحتلة من القدس. حتى القبة الحديد بَدت فعاليتها ضعيفة، وهو ما يشير الى دراسة وافية حول طريقة التغلب عليها. ففي خلال 5 دقائق أطلقت حركة «حماس» 137 صاروخاً دفعة واحدة جعلت منظومة القبة الحديدية عاجزة عن القيام بدورها. إسرائيل من جانبها برّرت عجز القبة الحديدية بالحديث عن «خلل فني».
التقديرات الاولية تشير الى انطلاق اكثر من 1000 صاروخ من غزة خلال يومين فقط في جولة هي الأعنف منذ العام 2014.
لا بد انّ اسرائيل لاحظت أن المقاومة الفلسطينية اصبحت اليوم اكثر نضجاً في خططها العسكرية، وهي باتَت تعمل بنحو مدروس ومخطط ومنظم وهو ما يعني انّ اسرائيل باتت في مأزق، وانّ نظرة الاستخفاف تبدّلت. والسؤال المطروح الآن هو حول طريقة تعاطي اسرائيل مع الواقع المستجد، خصوصاً انّ ملفات عدة تتداخل مع التصعيد العسكري الحاصل.
في الداخل الاسرائيلي جدل واسع حول الواقع الذي آلت اليه الامور. فهنالك من يضع اللائمة على فشل التقديرات والمعلومات الامنية، وهنالك ايضاً من يتّهم نتنياهو باعتماد سلوك متهور لحسابات تتعلق بالازمة الحكومية. ذلك انّ إخفاق نتنياهو مرة جديدة في مهمة تشكيل الحكومة نقل التفويض الى خصمه يائير ليبيد على رأس كتلة التغيير. وكان قد بَدا أنّ ليبيد كان يقترب من احتمال إقناع القائمة العربية الموحدة بالتعاون معه، وهو ما يعني خروج نتنياهو من السلطة واقترابه خطوات من السجن.
ومن المنطقي ان يؤدي التصعيد العسكري والامني الى دفع القائمة العربية الموحدة الى الوراء، ومعه قطع الطريق على كتلة التغيير بالتعاون مع القائمة الموحدة. ومعه لا بد من طرح السؤال عما اذا كان ذلك سيعني إطالة أمد القصف والمواجهات؟
قد يكون نتنياهو يفكر باللجوء الى حكومة طوارئ ما سيعني ارجاء البحث في تشكيل حكومة غالبية الى ما بعد ثلاثة اشهر وربما اكثر. ولكن باب الخطورة هنا انّ لحكومات الوحدة الوطنية تاريخ خطير ونتائج كارثية.
والجانب الثالث للمواجهات الحاصلة يتعلق بالعلاقة الباردة ما بين ادارة جو بايدن ونتنياهو صديق دونالد ترامب وحليفه الوفي.
وكان لافتاً عدم صدور أي موقف مباشر عن الرئيس الاميركي والاكتفاء بعد يومين من بدء القصف ببيان عن البيت الابيض. وجاء تعليق ترامب معبّراً حين اتهم بايدن بالضعف وقلة دعمه لإسرائيل. مع الاشارة الى أن الكثير من الاصوات في الحزب الديموقراطي ندّدت بإسرائيل.
وقد يكون الرئيس الاميركي مرحّباً ضمناً بالمأزق الذي وقع فيه نتنياهو، وربما للقضاء نهائياً على مشروع سلفه «صفقة القرن». ذلك انّ بايدن يؤيد مشروع الحل القائم على اساس الدولتين. هو يدرك انّ الشارع الاسرائيلي، ونتيجة الدعم اللامحدود الذي ناله من ادارة ترامب، بات يرفض اي تسوية على اساس حل الدولتين، وهو ما جعل مزاج الناخب الاسرائيلي يميل بقوة في اتجاه اليمين لـ4 دورات متتالية. لكن تلقي اسرائيل صفعة قد يكون مساعداً في الاتجاه المعاكس، بمعنى انّ هزيمة الحرب عام 1973 مهّدت الطريق للتنازل عن سيناء والقبول بالسلام مع مصر. وسقوط صواريخ سكود العراقية عام 1990 دجَّن الشارع الاسرائيلي وجعله اكثر ليونة للقبول بالسلام مع الاردن ومع السلطة الفلسطينية. واستطراداً، فإنّ الصواريخ التي طاولت تل ابيب والصفعة العسكرية لاسرائيل قد تجعل الشارع الاسرائيلي اكثر ليونة وتقبّلاً لحل الدولتين. قد يكون من المبكر التفكير في هذا الاتجاه، لكن يجب عدم إغفال ذلك من الحسابات. لكنّ الثابت ان بايدن لن يدعم بنحو أعمى اي خطوة عسكرية اسرائيلية.
أمّا الجانب الرابع فهو المتعلق بالنزاع الاقليمي الحاد الذي يقسم الشرق الاوسط بين ايران وخصومها، وهو ما أدى الى تسهيل خطوات التطبيع الاخيرة مع اسرائيل.
في الواقع، قد تنتقل سريعاً حماوة المواجهات العسكرية في غزة الى نزاعات حامية داخل البلدان والانظمة العربية. وبخلاف الانطباع الذي ساد سابقاً، فإنّ قضية فلسطين ورمزية القدس ما تزالان تعيشان في الوجدان العربي، ربما كانت الحاجة الى عود ثقاب لإعادة إشعال حرارة هذه القضية.
ومعه، لا بد من إعادة طرح الوظيفة المتقدمة التي تسعى اسرائيل لأن تتولاها، إذ كيف يمكن لها ان تلعب هذا الدور فيما منصّات استخراج الغاز الطبيعي من البحر مهددة عند كل مفترق، كما حصل مع توقف هذه المنصة عن العمل في الامس.
يبقى السؤال الاهم: الى أين يمكن ان تتدحرج الامور؟ قد لا تبدو الخيارات واسعة امام اسرائيل، فالحرب البرية غير مؤاتية بالنسبة اليها فجيشها يعاني في قطاعاته البرية، وهو ما ردّ به ساخراً نفتالي بينيت على وزير الدفاع غانتس حين لوَّح بهذه الورقة. وبالتالي، لا خيار امام اسرائيل سوى الاستمرار، او ربما تصعيد الحرب الجوية وسيناريو الاغتيالات، لكن هذا النوع من الحروب معروفة نتائجه سلفاً.
وبالنسبة الى «حزب الله» فإنّ اسرائيل ستتحاشى الاستدارة شمالاً إلا في حال انطلاق صواريخ من جنوب لبنان، وهذا لا يبدو حاصلاً.
اما في حال التصعيد ايرانياً، فإنّ الرد الاسرائيلي قد يكون من خلال الحرب السيبرانية ما يؤدي الى استهداف قطاعات حيوية من خلال الاعتداء الالكتروني.
فخيار الحرب الواسعة ليس متوافراً لإسرائيل، وهو ما يعني ان عليها مستقبلاً اعادة حساباتها جيداً. لكن لا بد من الاخذ في الاعتبار ان نتنياهو قد يكون نجح في التأثير على المفاوضات حول الاتفاق النووي. وربما الذهاب الى تصعيد الاوضاع اكثر سيؤدي الى اصابة هذه المفاوضات بجروح كثيرة، وهو ما سيعني اعادة خلط الاوراق مجدداً.