أثار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مشكلة تطبيق الأحكام الدينية في ظل الدولة العربية (أو الإسلامية) المعاصرة. هو لم يتكلم كفقيه أو مجتهد، إنما بصفته رأس الدولة، أي رمز السلطة العامة صاحبة السيادة المطلقة في تدبير أمور المجتمع. أي تكلم بما تقتضيه أصول تنظيم الشأن العام واتخاذ القرار العام داخل الدولة، وصلة ذلك بأحكام الدين التفصيلية التي ما تزال تحتفظ بمادتها ومسوغاتها واستدلالاتها التقليدية، من دون إحداث أي تغيير أو تعديل في مناهج أو بناءات المؤسسة العلمية التي تنتج (تستنبط) هذه الأحكام، أو تغيير في أسلوب تطبيقها وتشخيصها على أرض الواقع.
هي علاقة تزداد في زماننا المعاصر التباساً وارتباكاً بل تباعداً بين:
منطق دولة آخذة في مراعاة نظام علاقات وعرف دولي يستجيب ويعكس تتشابك وتداخل المصالح الدولية، بحيث لم تعد الدول تتقوم بخصوصيتها الثقافية والتاريخية وحتى الدينية، بل بات تكوينها ومقومات بقاءها ونجاحها وإخفاقها وآلية القرار فيها تتحدد وفق معطيات عابرة لحيزها الجغرافي والمجتمعي، تقوم على نظام علاقات دولية ونظام سوق وشبكة مصالح دولية، بحيث لم يعد هنالك مجال للدولة المعزولة والمنفصلة، أو الدولة ذات الخصوصية المتضخمة أو الدوافع الأيديولوجية التبشيرية.
وبين منطق فقهي-كلامي ما يزال يحمل مقومات الانتظام السياسي في القرون الوسطى، حيث الهوية الدينية تتطابق مع الهوية السياسية، وحيث العالم منقسم إلى أرض كفر وأرض إيمان، وحيث الأصل في علاقات الدول هو الصراع والحرب، وحيث القانون ليس سوى أحكام تفصيلية ذات طابع فردي، مستنبطة من شتات واسع من الروايات والنصوص، لا يخلو أكثرها من التعارض، ويعاني أكثرها من ضعف في إثبات نسبتها إلى النبي.
هي أحكام جمد الزمن بداخلها، وتعبر عن أزمنة ما قبل الدولة، بل عن أزمنة اللادولة، التي تشخص الأحكام بصورها الجزئية والشخصية، لا بصورها الكلية، ولا تلحظ في عملية استنباطها أن التشريع عملية سياسية وتدبيرية وليس فقط من ملحقات النص الديني ولوازمه اللفظية، أي ليس مجرد دلالة لغوية للنصوص، مثلما هو حال الاستنباط الفقهي القديم والمعاصر، بل هو أيضاً عملية عقلية انتظامية (ٍSystematic)، لا يعود أمر تقديرها وتحديدها إلى الفقيه، بل يصبح شأناً عاماً كلياً، تكون الكلمة النهائية فيه للدولة، التي تملك الحق الحصري في وضع التشريعات وتعديلها وإلغائها وتطبيقها.
أي إن التشريع للمجتمع ليس مهمة منحصرة بالفقيه أو الاستنباط الفقهي، حتى لو افترضنا اعتماد الإسلام مصدراً للتشريع، بل هي في مرحلتها النهائية مهمة الدولة، أي مؤسساتها التشريعية والقانونية، التي تعمد إلى تكييف الأحكام المستنبطة من النصوص مع مصالح الدولة وطبيعة الواقع وضرورات الزمن، وإلى إعادة صياغة هذه الأحكام من فتاوى مشتتة ومتفرقة، إلى مباديء تشريع كلية متماسكة ومتناغمة. وهي بمثابة خطوة إضافية للاستنباط الفقهي الذي يقتصر على استنطاق النصوص بما تدلي به من أحكام وفق أصول التعبير والفهم اللغويين، بأن تعمد الدولة إلى تأطير هذه الأحكام المستنبطة وتحويلها إلى نظام قانوني ذي مباديء كلية تتطابق مع مهمة الدولة ووظيفتها في تدبير وإدارة شؤون المجتمع.
لذلك، لاحظنا في التاريخ الإسلامي، أنه كلما تطورت الدولة وتطورت أجهزتها واتسع مجالها وتعقَّد نشاطها، كلما حصل تباين وافتراق بين القول الفقهي الذي يكشف عن المعنى اللغوي للنص الديني من جهة، وبين ضرورات الدولة والمتغيرات الاجتماعية التي تحصل من جهة أخرى. وهو أمر لاحظناه منذ زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي عطل بعض الأحكام الدينية، مثل المتعة وقطع يد السارق، وجيّر أرض السواد وقفاً على المسلمين بعدما كانت في السابق حقاً للفاتحين. كذلك، بتنا نشهد توسعاً في سلطة الدولة على حساب الفقيه في فترة متأخرة، حيث استمرت في توسيع دائرة سلطتها بتطبيق أحكام وتشريعات مستوحاة من ضرورات عمل السلطة لا من النصوص الدينية، ولم تعد تتقيد بالشرع الفقهي، وأخذت تنتزع من الفقيه صلاحياته في مجال القضاء، وابتدعت لذلك قضاء المال لتجاوز عجز القضاء الفقهي بحسب زعمها. ثم ابتكرت ما يسمى بالسياسة الشرعية التي سايرها فيها بعض الفقهاء، حيث قالت (السلطة) بجواز تجاوز الحاكم للشريعة وأحكامها أحياناً، إدركاً منه لمصلحة عليا تتجاوز الأحكام والاعتبارات الشرعية.
هذا الامر أثار حفيظة الفقهاء، بعد أن وجدوا بحسب تعبير ابن عقيل وابن الجوزي بأن السياسة طغت على الشريعة. فتجد ابن الجوزي وابن عقيل وحتى ابن تيمية يهاجمون الحكم بالسياسة وتجاوز الشريعة. وقد نبه المقريزي إلى أن المماليك والترك منذ أيام السلاجقة يتبعون أعرافاً لا شأن للشريعة بها. فما عاد الحكام يلتزمون في العقوبات بأحكام القضاء والشريعة. بل توسعوا في ذلك وبالغوا في ذلك بإسم السياسة التي لها أصل شرعي، حيث جوزوا للإمام في بعض الحالات أن يشدد العقوبة بإسم السياسة مع أن الجرم لا يقتضي ذلك من الناحية الشرعية. وهي حالات أخذت تتكاثر لتصبح هي القاعدة بعدما كانت في السابق استثناءً.
هذا التباين والافتراق ليس سببه انحراف السلطة عن الدين ومفارتها له، بل بسبب أن مجال الدولة يتطلب تشريعات أبعد مما تقتضيه دلالات النص الديني اللغوية ولوازمها العقلية. فكلما تطورت الدولة واتخذت صفة كلية وعقلانية، مثلما هو واقع الدولة الحديثة، كلما احتاجت إلى أصول تشريعية ودستورية كلية مستوحاة من حقيقتها ومجال عملها، وكلما ابتعدت عن التشريعات التي أنتجها الاجتهاد الفقهي، بحكم كونها تشريعات انتجت خارج الدولة، أي لم تلحظها تشريعات كلية للدولة وداخلها، بل اقتصرت على بيان التكليف الفردي في معاملاته وعباداته، وأنتجت كماً هائلا من الأحكام التفصيلية التي تلامس حياة الفرد ومسلكياته، منطلقة من النصوص الدينية المدونة، ومعتمدة قواعد التعبير اللغوي (النحو والبيان والمعاني) للكشف عن المراد من التعبير أو الجملة.
هذا الأمر حجب التفكير في السمات الكلية والجوهرية لأية بيئة اجتماعية مستجدة، وحجب أيضاً التفكير في كليات النص الديني، لا نص بعينه بل النصوص بأسرها، وهو نوع نشاط تأويلي ذو طابع تركيبي يذهب أبعد من الظهور اللغوي للفظ للنص، ويغوص في طبقات النص ومراتبه، ليكون بالإمكان رؤيته وحدة دلالية قائمة بذاتها.
مهما يكن من أمر، كانت الشريعة ضرورة اجتماع، وضرورة انتظام خاص للأفراد والجماعات، لكنها شريعة أُنتجت وفق مبانيها وفرضياتها الأصولية، خارج الدولة وتضخمت أحكاماً جزئية لوقائع جزئية من دون أن تتطور لتتخذ كليات قانونية، أي بنية تشريعية عامة لانتظام اجتماعي عام، بحكم أن الدولة التي هي أساس أية قاعدة كلية للانتظام الاجتماعي كانت خارج مدى الفقه ونظره وخارج صلاحياته ونفوذه. وهو أمر تسبب باتساع الفجوة والهوة بين التشريع القائم على النظر الفقهي، وبين الدولة التي تميل لأن تكون أقل شخصانية وأكثر مؤسساتية وعقلانية.
ليس التشريع مجرد كشف عن دلالة النص الديني أو اعتماد ظاهره، بل هو في مراحل تشكله النهائية فعل سياسي للدولة. والحل في المجتمعات الإسلامية المحافظة، لا يكون بإلغاء الشريعة الإسلامية، بل بردم الهوة والفجوة، بين الاستنباط الفقهي وبين تشريع الدولة. هذا يتحقق فقط بالانتقال من دولة الشريعة إلى شريعة الدولة.