لا أولوية تعلو على أولوية رئاسة الجمهورية لدى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي يريد ان يخلف الرئيس ميشال عون بأي ثمن، إلّا ان العقوبات الأميركية على شخصه تشكل حاجزا وعائقا أمامه، فوضَعَ ويضع كل جهده في محاولة لرفع هذه العقوبات من أجل العودة إلى السباق الرئاسي.
ليس مهماً ان ينفي باسيل سعيه إلى الموقع الأول في الجمهورية، لأنّ القاصي يعلم كما الداني ان هذا الهدف وضع منذ اللحظة الأولى لدخول عون إلى القصر الجمهوري، وهنا بالذات مكمن الخطأ القاتل لهذا الفريق الذي جعل الأولوية لخلافة عون بدلاً من إنجاح عهده، فيما لو أعطيت الأولوية لإنجاح العهد لكان حافظ باسيل على حظوظه الرئاسية، والانطباع الذي خلّفه وكأنّ وظيفة عهد عون تنحصر بالتهيئة لعهد باسيل.
ويدرك باسيل انّ هدفه، الذي كانت كلفته باهظة جداً عليه وعلى عون، لا يمكن ان يتحقق ما لم ترفع العقوبات عنه، فوضعَ خطة رباعية سعياً في هذا الاتجاه وقبل نهاية العهد طبعاً، ترتكز على الآتي:
أولاً: إستنفار اللوبي اللبناني المؤيد لباسيل في واشنطن من أجل السعي لدى الإدارة الأميركية لرفع العقوبات عنه من زاويتين: الأولى كون مبدأ العقوبات تراجع مع الإدارة الحالية كي لا نقول توقّف وانتفى على رغم انّ جوهره يرتكز على عنصر الفساد لا السياسة، ما يؤشّر إلى التبدُّل في التوجه بين الإدارتين، ولا مصلحة للإدارة الحالية في مواصلة سياسات الإدارة السابقة في لبنان في الوقت الذي أدخلت عليها تغييراً في كل العالم بدءاً من المفاوضات النووية مع طهران، ما يعني انّ لبنان يجب ان يكون مشمولاً بهذا التبدُّل الذي يندرج ضمن السياسة الأميركية الجديدة.
والزاوية الثانية إقناع واشنطن بأنّ رفع العقوبات عن باسيل يشكل مصلحة أميركية، لأنه الوحيد في لبنان الذي يتحدث عن تطبيع مع إسرائيل بما يتجاوز الاتفاق التقني. وبالتالي، يجب تشجيعه على مواصلة هذا التوجه الذي يدخل ضمن الاستراتيجية الأميركية للسلام مع إسرائيل في المنطقة.
ثانياً: تحريك اليمين الأوروبي والفرنسي تحديداً ليس فقط من أجل الحؤول دون عقوبات أوروبية على باسيل، كون هذه العقوبات تختلف عن الأميركية، وتنتفي فور تأليف الحكومة، وتأثيرها الدولي محدود، إنما تحريكها من أجل استنفار اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة بغية الضغط على واشنطن لرفع العقوبات عن باسيل بسَعي وطلب ليس من الأخير، إنما من اليمين الأوروبي الحليف القوي لإسرائيل، وذلك لسببين: الأول تحالفي بين اليمين الأوروبي وباسيل وفِعل اي شيء لترييحه سياسياً في سياق تبادل الخدمات بين الحلفاء، والثاني كونه الوحيد في لبنان وعلى رغم تحالفه مع «حزب الله» يتحدث عن السلام مع تل أبيب.
ثالثاً: اليمين الأوروبي على تحالف وثيق ليس فقط مع إسرائيل، إنما أيضاً مع روسيا ضمن تعزيز ما يسمّى بتحالف الأقليات في العالم. وفي زيارته الأخيرة لموسكو جدّد باسيل مطالبته لروسيا بدعم المسيحية المشرقية التي يستخدمها كعنوان لإغراء موسكو من أجل تَبنّيه كحليف قادر على توسيع النفوذ الروسي بما يتجاوز الجغرافيا السورية إلى المجموعات التي تصنّف في خانة الأقليات، فتستنسخ روسيا بذلك النموذج الإيراني بعد الثورة الذي انتشر وتمدّد عن طريق توظيف الوجود الشيعي في الدول العربية بما يخدم ويتلاءم مع سياسات هذه الثورة. وبالتالي، توظّف موسكو الوجود الأقلوي تعزيزاً لنفوذها وتمددها بدءاً من لبنان عن طريق باسيل.
رابعاً: لا تتعارض عقائدية «حزب الله» مع براغماتيته، حيث ان الأساس بالنسبة إليه حماية سلاحه ومشروعه، ولن يتخلى عن تحالفه مع باسيل طالما انه لا يتناقض مع الهدف الأساسي للحزب، فيما لا مشكلة للأخير إطلاقاً بمنح باسيل الهامش الذي يخدمه بدءاً من الشارع المسيحي، مرورا بالرياض، وصولا إلى واشنطن. وهذا ما يفسِّر عدم تعليقه على كلام باسيل المكرر عن التطبيع مع إسرائيل، لأنه إذا كان هذا الكلام يخدم باسيل برفع العقوبات الأميركية عنه فلن يقف عائقاً في طريقه، خصوصا ان ما يهمّ الحزب من باسيل هو الغطاء المسيحي السياسي، والغطاء البرلماني الدستوري، والغطاء الرئاسي الذي تأمّن مع العهد، ما يعني ان رفع العقوبات يشكل مصلحة مشتركة لباسيل والحزب معاً، لأنه يمكّنه من مواصلة مشروع التغطية المثلّث الذي يؤمنه، وأما الكلام عن التطبيع فيضعه ضمن الكلام الاستهلاكي الذي لا جمرك عليه وضمن عدة الشغل الضرورية لباسيل بغية ان يتمكّن من مواصلة الموازنة بين تغطيته للسلاح وقدرته على إبقاء الخطوط مع واشنطن مفتوحة، حيث انه يريد ان يمثِّل حاجة للأميركيين على غرار تمثيله حاجة للحزب الذي يدرك انّ الأمور لن تذهب أبعد من ذلك، لأنّ مفتاح التطبيع او غيره بيده وحده كقوة عسكرية على الأرض.
لا شك انّ اللعب على الخطوط الدولية مسألة خطيرة ودقيقة، ولكن النائب باسيل قرر ان يوظِّف حيثية تياره السياسية والشعبية ضمن سياق المصلحة والحاجة المتبادلة: يوفِّر لـ»حزب الله» الغطاء لسلاحه وينتزع منه النفوذ السياسي؛ يُغري موسكو بتحالف الأقليات فينتزع منها الدعم السياسي؛ يُغري واشنطن بالكلام عن التطبيع مع إسرائيل وانه الوحيد في لبنان الذي يتكلم هذه اللغة من أجل رفع العقوبات عنه وما بعد هذه العقوبات، ولا مشكلة لديه في حال لم يتمكّن من ترجمة التطبيع، لأنه يتذرّع بالحزب الذي تصدى له ومنعه، وذلك بالتنسيق والتكافل والتضامن مع الأخير، كما انه يوجّه رسالة لواشنطن والرياض بأنّ تناقضه مع الحزب من طبيعة ايديولوجية واستراتيجية؛ يُغري اليمين الأوروبي بانه يشكل جزءاً لا يتجزأ من سياسات هذا اليمين في لبنان والشرق الأوسط، وبالتالي يشكل جسراً لتوسيع رقعة هذا اليمين وتمدده.
فهل سياسة الحاجة والإغراء التي يعتمدها باسيل ستمكّنه من تحقيق أهدافه برفع العقوبات ودعم مشروعه الرئاسي؟ وهل يعتقد ان باستطاعته ان يَبلف دول العالم بالاتّكاء على ان هذه الدول لا يمكنها ان تطلب أبعد من ذلك لجهة انّ تبنّي الموقف يختلف عن القدرة على ترجمته على أرض الواقع؟ وهل سياسة اللعب على الخطوط والمصالح مفيدة أكثر من الوضوح السياسي في الخطوط والتوجهات؟ وألا يشكل اللعب على الخطوط خطراً في مراحل التحولات والتبدلات؟
وبقدر ما تشكّل رئاسة الجمهورية أولوية للعهد وباسيل من أجل الاستمرارية في الموقع الرئاسي ومواصلة السياسات التحالفية والداخلية والخارجية نفسها، بقدر ما انّ رفع العقوبات الأميركية يشكل أولوية الأولويات لأن من دون رفعها ستبقى طريق القصر الجمهوري مقطوعة أمامه، خصوصاً انه يعتبر ان الدخول الى القصر يجب ان يكون بعد الرئيس عون، وإلا ستكون الفرصة الثانية بعيدة المنال، وبالتالي هو على استعداد لاستنفار العالم وتوظيفه سعياً لرفع العقوبات تمهيدا لاستعادة حظوظه الرئاسية.
ولكن ماذا عن الرأي العام اللبناني الذي انتفض ضد باسيل؟ وماذا عن القوى السياسية التي لم يترك له من بينها حليفاً ولا صديقاً؟ وعلى رغم ان الرئاسات تخضع لموازين القوى الخارجية، ولكن لا يمكن التعامل بخفة مع ميزان القوى الداخلي الذي يتكئ فيه راهنا وحصرا على «حزب الله»، ويتفهّم موقفه من عدم تبنيه رئاسيا اعتبارا من اليوم، ولكن ما يريده منه عدم السماح بوصول غيره بانتظار اللحظة التي يعود ويتبنّاه فيها على قاعدة انّ مصلحة الحزب هي مع باسيل لا مع غيره.
فهل ستتطابق حسابات الحقل الرئاسية لباسيل مع حسابات البيدر الدولية والمحلية؟