أذكر..
أننا كنَّا نقضي أيام العطلة بعد انتهاء الدروس الحوزوية من كل أسبوع من أيام الصيف في الضيعة، كما أذكر، ذات يوم من أيام العطلة، حادثني أستاذي الشيخ عن رغبته برحلة إلى نهر الليطاني الواقع في جرود بلدته، كان قد غادرها أيام الإحتلال الإسرائيلي، وبعد الهزيمة والإندحار للعدو، جمعتنا تلك الأمنية بشدِّ الرحيل والرحل والترحال إلى النهر، في ذاك اليوم الصيفي المشمس....
وصلت إلى قريته، وبعد السلام والكلام، بادرني قائلاً: لا يمكننا السير إلاَّ مشياً على الأقدام، لعدم وجود طريق معبدة توصل السيارة إلى النهر، أخذنا أمتعتنا وبعض الحاجيات وبدأنا المشي نزولاً من الجبل ووصولاً إلى النهر، لكن أقدام الأستاذ تعدو عدواً سريعاً، كالعاديات ضبحاً، لمعرفته بطريق المشاة، فناديته بصوتٍ مرتفع، بلياقة أدب الصوت، شيخنا هل توقفت قليلاً، حتى أتمكن من وضع القدم دفعاً من قندول الجبل وأشواك البلاَّن، فردَّ بصوتٍ جهوري ـ خلتُ نفسي أنني ما زلت في الحوزة وهو يُسمَّعنا دروس الحلقات ـ اسلك طريق الحمير والدواب!!..
فعلاً.!... وقفت أتأمل تعرجات وتضاريس الجبل التي تشبه كل الخطوط المعوجة والمتعرجة، يميناً وشمالاً، وطولاً وعرضاً، فسلكتها حفاظاً على سلامة الأقدام من وخز أُبَرالشوك..
في منتصف الطريق، شاهدتُ بيتاً ضخماً، ومحمية كبيرة، ومسيجة بأحجار الصخر، وفي وسطها خيمة ذات قرميد مزخرف، فعلمت أنها لشيخ القرية الذي يأمُّ المصلين في الجامع ويزهدهم بالدنيا!.
ثمَّ، تابعت نظري إلى الأسفل، وإذا بالأستاذ الشيخ، يسبح في النهر ويُسبِّح تسبيحاً، وصلتُ وأنا أحمل ظناً، مع علمي بأنَّ بعض الظن إثم، وبعد استراحة قليلة من تعب المشي، قلت له: كيف تشبه الإنسان بسلك طريق الحيوان ـ الحمار ـ أليس هذا تقليل من شأنية الإنسان؟؟
فردَّ قائلاً: إسمع يا ولدي: في ثقافتنا الحياتية والاجتماعية، يعتبر المثقفون والمتعلمون بأنَّ كلمة "الحمار" هي صفة لمن لا يعرف...! فالذي لا يحسن تخصصه وعمله، فيصفونه ـ بالحمرنة ـ فجعلوا ـ الحمار ـ مسخرة وأضحوكة بين الناس، مع العلم بأنه من المخلوقات الذكية والصابرة، حتى لقب، ب(أبي صابر)...
إقرأ أيضا: خذلناك يا علي !
هل رأيت حماراً كسر جرة من حمل جراره؟..
هل رأيت حماراً لا يعرف عرض الطريق وطولها؟..
هل رأيت حماراً يسلك طريقاً وعرة؟...
وهل رأيته تاه عن طريقه؟...
ألم تصل يا ولدي إلى النهر عن طريقٍ سلكته الدواب؟...
هل رأيته يوماً يأكل أكثر من حاجته؟...
وهل.. وهل... وهل...؟؟؟.
ومنذ ذلك اليوم، وأنا أتأمل في خلق الله ومخلوقاته، وأتذكر جواب الأستاذ عن بهائم الأرض وهوامها، كيف تتقن الحكمة والصبر والمعرفة بالغريزة، وتعرف ما يضرها وما ينفعها، ونحن نعيش في زمن التقدمية والحضارة والديمقراطية والعلم والمعرفة، ولكننا نعيش بالتقدم إلى الوراء، كيف لا يمكننا أن نبني دولة وبلد وحياة تضمن لنا خيرنا وكرامتنا وصحتنا ومستقبلنا ومستقبل أجيالنا...
أليس التفكر في خلق الله ومخلوقاته يفيدنا بالحياة؟..
أليس الإنسان أشرف مخلوقات الله؟..
فكيف يصنع فقراً، وتخلفاً، وهدراً، وتسلطاً، وتجبراً، وقتلاً، بكل الوسائل ؟.
وتلك حدود الله فلا تعتدوها ـ والتفكر في خلق الله ليس تعدياً، بل يجب التفكر من أجل المعرفة ـ هذا خلق الله، فأرونا ماذا فعلتم بخلق الله في هذا الوطن.. لبنان.... الشيخ عباس حايك