على عكس ما يقال عادة «مشى ولم يقل كلمة جديدة»، أنهى وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان زيارته لبيروت تاركاً خلفه كثيراً من الرسائل وما على الجميع سوى تفكيكها. وبوجود هامش بسيط يمكن التصرف به، فقد كان الرجل واضحاً في «المناصفة» التي أجراها بين «التغييريين» وأركان السلطة وهو ما كان متوقعاً في دوائر محدودة. فكيف يمكن الوصول الى هذه المعادلة؟
قبل الدخول في أسباب مغادرة لودريان الهادئة أمس عائداً الى باريس بعدما ألغى جولة كانت ستقوده الى بعض العواصم العربية، لا بد من التوقف عند ما شهدته المرحلة التي سبقت زيارته الخاطفة لبيروت لفهم النتائج المقدرة لها، وتلك التي يمكن ان يحققها. وهو ما كشفت عنه بعض المعلومات التي توافرت لدى مجموعة من الديبلوماسيين والسياسيين الذين شاركوا في التحضير لها من بيروت وباريس وما بينهما، والتي من خلالها يمكن إلقاء الضوء على ما أراده لودريان منها بعيداً من التحليلات التي عكست مصالح اصحابها ورغباتهم وبعيداً عمّا جرى في الكواليس السياسية والديبلوماسية.
ولمزيد من التفاصيل التي يمكن الكشف عنها، تحدثت المصادر الديبلوماسية عن تشكيل خليّتين مؤقتتين لمواكبة الزيارة، إحداها في باريس والأخرى في السفارة الفرنسية في بيروت من أجل مواكبتها. وقد عملتا بجهد لترتيب المواعيد في ظل سرية تامة، وهو ما دلّت اليه سلسلة المفاجآت التي حملتها الزيارة ولا سيما منها اللقاء الموسع مع «القوى التغييرية» في بيروت. فقد كان جدول اعمال رئيس الديبلوماسية الفرنسية قبل الزيارة وما بعدها مُثقلاً بالمواعيد المهمة، فهو قبل ان يتوجه الى بيروت كان في لندن مشاركاً في مؤتمر لمجموعة الدول السبع، والتقى على هامشه وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية أنتوني بلينكن حيث ناقش معه مهمته العاجلة في العاصمة اللبنانية وتلقى جرعة دعم كبيرة، فالرجلان صديقان قديمان ينسّقان خطواتهما حيث تحضر بلادهما مسبقاً ولاحقاً. كما أنه مضطر للعودة الى باريس تحضيراً لمؤتمر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي المقرر في عطلة نهاية الاسبوع الجاري، حيث سيقدم تقريره الاخير عن نتائج زيارته لبيروت أمام نظرائه لتنسيق المواقف من جملة قضايا.
والى الملفات البينية المطروحة على جدول اعمال اللقاء بين مجموعة الوزراء سيقدّم لودريان تقريراً مفصّلاً عن نتائج زيارته البيروتية. وهو ما أكدته الناطقة الرسمية باسم الخارجية الفرنسية أنياس فان دير مول التي كشفت قبَيل مغادرة لودريان بيروت ان «إجراءات اتخذت بالفعل على الصعيد الوطني بهدف منع دخول الأراضي الفرنسية للشخصيات اللبنانية المتورطة في العرقلة السياسية والفساد». ونَوّهت «بالحق في اتخاذ تدابير إضافية إذا استمر التعطيل»، وكشفت ايضاً ان بلادها بدأت «مناقشات مع شركائنا الأوروبيين حول التدابير المتاحة للاتحاد الأوروبي لزيادة الضغط من أجل الخروج من الأزمة». وانتهت الى القول: انّ الوزير لودريان موجود حالياً في لبنان ليعبّر عن «رسالة حزم كبيرة للقادة السياسيين ورسالة تضامن كامل مع اللبنانيين».
وإن توقفت المراجع الديبلوماسية امام مضمون بيان الخارجية الفرنسية، وتحديداً عند إشارته الى ما سَمّته «رسالة الحزم الى القادة السياسيين والتضامن مع اللبنانيين» التي حملها لودريان الى بيروت، يمكن فهم شكل وتوقيت ومضمون اللقاء الذي جمعه مع ممثلي «القوى التغييرية» في قصر الصنوبر. فهو خصّص له في الشكل اكثر من «نصف التوقيت المخصص للقاءاته الرسمية المعلنة» له في بيروت، لأنه أمضى بالتساوي بين بعبدا وعين التينة ما لا يزيد على 58 دقيقة، وخصص للقاء مع ممثلي هذه القوى نحو 115 دقيقة كان خلالها مستمعاً الى هواجس ممثليهم.
وفي إشارة لا بد منها لا يمكن تجاهل توصيف لودريان للقائه مع ممثلي القوى الحزبية والشبابية عندما قال قبَيل مغادرته بيروت انه التقى «اللبنانيين الملتزمين الذين يعملون للمحافظة على مستقبل لبنان ونموذجه المجتمعي، والتعايش والانسجام السلمي بين طوائفه وثقافته وهذا ما يشكل قوة وحدة لبنان وفرادته». كما ثبت وجود قرار مُسبق بتسمية مَن التقاهم في قصر الصنوبر بصفتهم «القوى التغييرية» بقرار اتخذ سلفاً بالتنسيق بين خليّتَي الازمة في باريس وبيروت بنية تأكيد وجود بديل ممكن لأركان «السلطة السياسية» في بيروت، وإن اتّحَدوا سيشكلون هذه القوة. كما بهدف الفصل بين هذه المجموعة وبقية المجموعات التي تكوّنت عقب ثورة 17 تشرين في اعتبارها الأكثر جدية، وتنظيماً لمجرد انها تجمع عدداً من رؤساء الاحزاب اللبنانية العريقة والنواب المستقيلين بعد انفجار المرفأ.
وفي محاولة لتوصيف اللقاء مع هذه المجموعة رَغب مصدر ديبلوماسي في إجراء تشبيه يطاول مضمونه وتوقيته، فذكّر بزيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون التاريخية للبنان في 6 آب الماضي بعد يومين على تفجير المرفأ، وتوقف عند توجّهه بقرار مسبق الى المنطقة المنكوبة مباشرة من مطار بيروت مُقدّماً لقاءه الشعبي في «شارع غورو» في الجميزة مع اللبنانيين، وتحديداً المتضررين والمنكوبين جراء الانفجار، على لقاءاته مع المسؤولين الكبار في قصر بعبدا. وإن نسي البعض مضمون خطاب ماكرون يومها، فإنّ عليه ان يتذكر كيف خاطب ماكرون اللبنانيين المتحلقين من حوله يناشدون العودة الى «عهد الانتداب» في تلك اللحظة التي تجاوز فيها الجميع تداعيات جائحة كورونا ومخاطر «الاختلاط الشعبي»، معبّراً عن تعاطفه وتقديره للشعب المنكوب قبل ان يظهر اي تأييد او تعاطف مع أركان السلطة الذين لم يقصّر في تحميلهم المسؤولية عما حلّ بلبنان واللبنانيين، مشيراً إلى عجزهم وتقصيرهم بتلبية مطالب شعبهم وحاجاته وفشلهم في الحؤول دون النكبة التي حلت بهم. وهو بذلك جدّد ما كان لودريان قد سبقه اليه في زيارته التي سبقت الزيارة الرئاسية بأسبوعين تقريباً، مُتنبئاً بالكارثة السياسية والاقتصادية التي ستقود إليها السياسات المعتمدة لدى اركان السلطة قبل ان يزيد انفجار المرفأ المخاوف من مجموعة الأزمات التي عمّت مختلف وجوه حياة اللبنانيين.
وختاماً، لا بد من الإشارة الى انّ لودريان احتفظ بكثير من «الصمت المدوي» قبل ان يكرر ما قاله سابقاً قبل الزيارة وهو على مسافة دقائق من رحلته الى باريس. كذلك اثبتت الزيارة وجود قرار مسبق بنية لودريان بعدم عقد اي لقاء مع ايّ من الذين يمكن ان تطاولهم العقوبات الفرنسية من أركان السلطة ومَن أخلّوا بتعهداتهم على طاولة «قصر الصنوبر المستديرة» التي ترأسها ماكرون في 2 ايلول الماضي، ومعهم أفراد من «الصف الثاني» من المستشارين الذين يلعبون أدوارا سلبية، ومنهم ومعهم المتهمون بالفساد. ولا ينكر احد اعضاء فريق الازمة من الفرنسيين ان لودريان كان يرغب في عدم عقد اي لقاء مع أركان السلطة لكنّ احترام باريس للاصول الديبلوماسية فرض عليه الحد الأدنى منها.