عندما وضعت الحرب العالمية الاولى أوزارها، وتلاشت الامبراطورية العثمانية، وتقدم الغرب الاوروبي بخرائطه ،ورسم حدود الدول الجديدة للشرق الاوسط. وكانت بعض هذه الحدود استجابةً لتقسيمات تاريخية راسخة، تمتد جذور بعضها الى زمن الخلافة الاسلامية في بواكيرها الاولى، وبعضها الآخر مصطنعاً وِفق مصالح الدول المُنتدبة. وترسّخ النظام الملكي مع استثناءاتٍ بسيطة، وظلّت معاني الديمقراطية والليبرالية غريبة عن المنطقة من الناحية الفكرية، وأجنبية من الناحية السياسية، وظلّ التلاعب بمصائر المنطقة في ظلّ الإنتدابين الفرنسي والانكليزي سيد الموقف.
إقرأ أيضا : ميركل سيدة العالم الناجحة تترك الحكم، وحكامنا الفاسدون على كراسيهم.
في هذا الخضم ضاعت فلسطين وقام الكيان الصهيوني الغاصب، قبل أن تتقدم الانقلابات العسكرية لترث فترة الإنتداب، وتقيم دولة الاستقلال والحزب الواحد، في المشرق العربي ومغربه، وكانت الديمقراطية أول ضحايا هذه الانظمة، وظلّ الاسلام موجودا على استحياء حتى نكسة حزيران، أوبالأصح هزيمة حزيران 1967، فتقدّم الاسلام ليشغل حيزا هاما في حياة المنطقة العقائدية والسياسية، وتراجعت فكرة القومية العربية. وغاب القومي العربي الذي يتبجح بفرادة"العرب"، وثقافتهم ومِنعتهم وعزّتهم، لتتقدّم صورة المسلم المؤمن، الحامل فكر الجهاد وفكر القرون الوسطى، وعقلية متخلّفة متصلّبة، موروثة من عصور الاسلام الأولى،غريبة عن العصر الحاضر وعن العلم والتطور والمدنية، وعن كل ما يمتُّ إلى الحياة المتجدّدة بصلة. وزاد الطين بِلّةً، وفودُ ضيفٍ ثقيلٍ على المنطقة العربية، تمثّل بالاسلام الخميني، الغريب على الطابع الاجتماعي والأخلاقي لشعوب المنطقة، والمعادي للمعايير العلمانية والديمقراطية، فضلاً عن استحالة تواصله مع أية هوية عربية.وراح طرفا الاسلام الراديكالي بوجهَيه السّني والشيعي يُمعنان بنبش ما يُصوّر على أنه تراث الاسلام الخالد المعادي لتراث الثقافة العربية بوجهيها الحضاري والانساني، فحصدت الشعوب العربية خيباتٍ متتالية، من الفكر القومي والاشتراكي ،وأخيراً الاسلامي، الذي ظهر أوائل القرن العشرين بأبشع صوره الإرهابية. وعندما لاحت تباشير الربيع العربي الواعد بالديمقراطية والدولة المدنية العادلة، وقيامة المواطن المتمتّع بكامل حقوقه، وقف الاسلام السياسي بالمرصاد، فتصدر الواجهة، وأربك الاحلام الواعدة للإنتفاضات العربية، وزاد التدخل الايراني من تعقد المشهد العربي ومضاعفة مآسيه. بانتظار خرائط جديدة لا يتكهن أمهر العرافين من قراءة حدودها وتلمُّس معالمها.