إذا بقيت الدولة اللبنانية على قيد الحياة حتى خريف 2022، فستواجه تحدّياً مفصلياً: هل تُجرى الانتخابات الرئاسية، وقَبلها النيابية، أو تطير كلها إلى مواعيد مجهولة؟ وما الذي يفكِّر الرئيس ميشال عون في أن يفعله، أياً يكن الحال؟ وهل يتكرَّر سيناريو 2014، إذ ينبري أحد المرشحين ويقول: «أنا الانتخابات. أكون رئيساً وإلاّ فلا رئاسة»؟ وهل هناك بين المرشَّحين مَن هو قادر على تحصيل الدعم الذي حصَّله عون نتيجة «عِناده» الشهير طوال عامين ونصف عام، فيفرض نفسه أمراً واقعاً على الخصوم والحلفاء في آن معاً؟

 

في عالم السياسة والسلطة في لبنان، الأشخاص لا يصنعون الأحداث. على العكس، الأحداث تصنعهم.

 

بعض النماذج في الـ40 عاماً الفائتة: الرئيس بشير الجميل تألَّق نجمُه في العام 1982، ثم انطفأ خلال أشهر قليلة، لا لأنّه أخطأ في خياراته- في المطلق- بل لأنّ الأرضية الضرورية لزرع هذه الخيارات وإِنباتِها ليست موجودة.


 
 

في العام 1989، الرئيس رينيه معوَّض أراد تطبيق «اتفاق الطائف» بمفهومه «المتوازن»، عربياً- دولياً ومسيحياً- إسلامياً. لكن الرئيس السوري حافظ الأسد كان قد سبقه بتخطيط دقيق لمصادرة «الطائف»، عبر صفقات مع القوى العربية والدولية. وهكذا، انفجر الحلم قبل أن يولد.

 

في العام 1992، جيء بالرئيس رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة. تمّ اعتباره رجل المرحلة. وقد وافق الأسد عليه: «أنتَ تعطي في الاقتصاد وتجيِّر له رصيدك العربي والدولي، ونحن نعطيك في الزعامة ورئاسة الحكومة. وأما القرار في السياسة والأمن فهو احتكار لنا». وافق الحريري لاعتقاده «أنّها مسألة وقت، والحلول آتية إلى الشرق الأوسط». ولكن، ذهب الحريري ضحية انتظار لم ينتهِ حتى اليوم.

 

والأكثر إثارة، ربما، نموذج عون، لأنّه معاكس للنماذج الأخرى. فالرجل بدأ مسارَه بخروجٍ مدوٍّ من السلطة ومن البلد، بعد حروب 1988- 1990، ثم انتهى بالعودة في العام 2005 وبالرئاسة في العام 2016. وفي الحالتين، هي مسألة توقيت: كيف نضبط الساعة في لبنان على توازنات النفوذ الإقليمي؟

 

طبعاً، كثير من اللاعبين اقتنعوا بضوابط اللعبة. فانخرطوا في السياسة أو السلطة على هذا الأساس (الرئيس الياس الهراوي نموذجاً)، أو اختاروا الانتظار لأنّ ساعتهم لم تأتِ بعد (النائب جان عبيد نموذجاً).

 

إذاً، اليوم، يبدو مُتسرّعاً طرحُ السؤال: مَن سيكون رئيس الجمهورية في العام 2022؟

الأحرى أن يكون: أي بلدٍ سيكون حينذاك؟ وأي جمهورية هي المطلوب انتخاب رئيس لها؟ وما التوازنات الإقليمية والدولية التي ستتحكَّم بالوضع اللبناني حينذاك؟ ومَا المَهمّات المطلوب من الرئيس المقبل أداؤها؟ وبعد ذلك كله، يصبح ممكناً التفكير في وضع «الشخص المناسب في المكان المناسب»، أي الملائم لتأدية هذه المَهمّات؟

 

في الأشهر الـ18 الآتية، بين ربيع 2021 وخريف 2022، وإذا لم يطرأ جديدٌ من خارج السياق، سيكون على لبنان أن يمرَّ في ما وصفه عون نفسُه بأنّه «جَهنّم». فهل يخرج البلد سالماً من النار قبل أن تأتي عليه؟ هل سيكون مؤهّلاً للعودة إلى ما كان عليه، أو يصابُ بتشوُّهاتٍ قد تكون موقَّتة يمكن علاجها أو دائمة تُغَيِّره إلى الأبد؟


 
 

ليس في الأفق ما يوحي بانفراجٍ مفاجئ يجنِّب الذهاب إلى الأسوأ. ولعلّ الأخطر هو تَمزُّق المظلّة العربية والدولية التي لطالما جرى الرهان عليها لحماية البلد والدولة، مالياً وسياسياً. والحصار الخليجي في موجته الجديدة يوحي باتجاهٍ تصعيدي لا تراجعي.

 

فوق ذلك، لا أفق لتوافقٍ بين القوى الخارجية الكبرى، ضمن مواعيد منظورة، حول الملفات الملتهبة: نزاع واشنطن- طهران، نزاع الرياض- طهران، نزاع واشنطن- بكين وموسكو ودور إسرائيل الإقليمي (مسار التطبيع و»صفقة القرن»).

 

إذا صمد البلد والدولة والجمهورية ورئاسة الجمهورية حتى خريف 2022، فسيكون مطلوباً من الجميع، ولا سيما منهم المرشّح لموقع الرئاسة، أن يحسموا الموقف في كل القضايا التي يؤجّلونها اليوم، عن قصدٍ أو عن غير قصد، ومنها:

1- ما هو موقع لبنان المالي إقليمياً وعالمياً، وأي نظام مالي ومصرفي سيعتمده، وكيف ستتوزّع القدرات المالية في البلد، ومَن سيُمسك بالقرار المالي والمصرفي؟ والحسمُ هنا لم يعد قابلاً للتأخير حتى موعد الاستحقاقات الانتخابية، لأنّ «الانهيار الكبير» صار مسألة أسابيع أو أشهر قليلة، وفق اعتراف المسؤولين عن شؤون المال والمصارف.

2- كيف سينتهي تنازع المَحاور الشرس على لبنان، بين القوى الإقليمية والدولية؟ هل سيوضع بكامله في محور إقليمي معيّن، فيعرِّضه لخطر العزل والموت اختناقاً، أو سيبقى مشلولاً وتائهاً في وضعية التأرجح والتشرذم بين مَحاور عدّة؟

3- ما دور إسرائيل في كل ما سيجري خلال الأشهر الـ18 المقبلة؟ والأمر لا يتعلق فقط بالمفاوضات غير المباشرة على ترسيم الحدود وتقاسم بلوكات الغاز بحراً، بل أيضاً بالترسيم برّاً حتى مزارع شبعا. وهل ترمي إسرائيل إلى فتح باب النقاش السياسي مع لبنان، إذا فعلت ذلك سوريا؟ وما موقع لبنان وحصته في «صفقة القرن»، وفي التوطين تحديداً؟

4- ما علاقة لبنان المستقبلية بسوريا الأسد؟ وثمة خشية مِن طرح السؤال: ما حجم النفوذ الذي يُراد أن تستعيده سوريا في لبنان؟

 

على الأرجح، عندما يتحمَّس المرشحون لتسويق أنفسهم، هم يفكِّرون في كل هذه النقاط الموجعة، ويعرفون أنّهم لن يستطيعوا مقاربة هذا «الحلم» إلاّ إذا قرَّروا مسبقاً تقديم الأثمان المطلوبة. وإلّا فالعقوبة تكون تدميرية، بالمعنى الأمني أو السياسي أو المالي.

 

أيُّ مرشحٍ «يَبْصُم» مسبقاً على الأثمان التي ستطلبها القوى الممسكة بالقرار، والقادر على التوفيق بينها وإرضائها جميعاً، سيكون هو صاحب الحظ السعيد بالوصول إلى بعبدا. ومن هنا يمكن إدراك ما يجري حالياً من «قفزات سياسية بهلوانية» وعمليات استدراجٍ للعروض، وما سيجري منها حتى خريف 2022… إذا بقي البلد والدولة والجمهورية والرئاسة والانتخابات!