ليست المرة الاولى التي تستعِر فيها المواجهة بين القيادات الروحية والسياسية، فالتاريخ يتحدث عن مواجهات خرجت عن المألوف بين بكركي و»التيار الوطني الحر»، ويبدو انّ هناك من يحنّ اليها. اما وقد ارتفع منسوب التجني على القيادات الروحية، فقد عبّر مرجع روحي عن استياء بالغ رافضاً ان نعيش في «الجمهورية الشعبية اللبنانية» بلا قانون ولا دستور ولا مؤسسات. وعليه، ما الذي يقود الى هذه المعادلة؟
تعددت في الآونة الاخيرة المواجهات التي يخوضها رئيس «التيار الوطني الحر» وقادته مع مختلف الاطراف السياسية والحزبية ولكنها لم تبلغ ما بلغته في الفترة الأخيرة من مروحة واسعة، الى درجة بات من السهل تعداد الجهات والشخصيات التي تؤيده وتتضامن معه وليس العكس. ومردّ ذلك، باعتراف القرببين من اهل البيت، انهم يخوضون «مواجهة كونية» في الداخل والخارج وليس من الضروري ان يشاركهم كثر بهذه النظرية التي أجبرتهم على خوض المواجهات في اكثر من اتجاه.
وباعتراف احد مسؤولي التيار فإنّ موقعهم اليوم يسمح لهم باتخاذ مثل هذه المواقف الحادة على ابواب مسلسل الاستحقاقات المقبلة. فمنذ عودة الرئيس العماد ميشال عون الى بيروت عام 2005 خاضوا اولى الاستحقاقات النيابية بنجاح سمحت لهم بفرض امر واقع جديد على الساحتين المسيحية واللبنانية. وبعد اتفاق مار مخايل 6 شباط 2006 انقلبت الامور رأساً على عقب، فلم يكن احد ينتظر مثل هذا التفاهم الذي ترتّبت عليه نتائج مختلفة قلبت كثيراً من المقاييس.
والى هذا التفاهم الذي استند اليه التيار في تلك المرحلة، تمكن من الحصول على مزيد من المكاسب على اكثر من مستوى. فجمدت تشكيلات حكومية الى ان شارك فيها بما أراده من حقائب وعدد الوزراء، وخاض اكثر من تجربة بالشراكة مع «حزب الله» أبرزها تعطيله حكومة الرئيس سعد الحريري في 18 كانون الثاني 2011 لحظة وصوله الى عتبة البيت الابيض، ليدخله متحوّلاً من رئيس حكومة كاملة المواصفات الى رئيس حكومة تصريف اعمال وصدرت في حينه فتوى بقطع تذكرة سفر له في اتجاه واحد.
لم تقف التجارب عند هذا الحد الى ان بلغت الذروة بتمديد الشغور الرئاسي ما بين ايار 2014 وتشرين الاول 2016 نحو 29 شهراً، لينتخب في نهايته عون رئيساً للجمهورية بمجموعة من التفاهمات السياسية التي لم تدم سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها المواجهات بينه وبين «التيار الازرق» وعدد من المكونات السياسية والحزبية التي كانت في صلب التسوية وتعايش العهد بكل بساطة مع فترات من الشلل لم تنته بعد، وعلى رغم من تعدد وجوهها وأبطالها فالنتيجة واحدة.
ومع كل محطة من هذه المحطات كانت هناك معارك طاحنة توّجتها المعركة الاخيرة مع الحريري، الذي اعاده التكليف النيابي الى الساحة السياسية ممثلاً وحيداً للقيام بمهمة التأليف. وبدلاً من إمكان التفاهم على تشكيلة وزراية، تجدد النزاع الى ان بلغ الذروة بين الموقعين المكلفين التأليف، وفقدت كل اشكال الحلول التي تحتاج الى الثقة المتبادلة بين بعبدا وميرنا الشالوحي من جهة و»بيت الوسط» مجدداً، وتزامنت مع اتهامات حادة للقيادات الروحية لوقوفها الى جانب «بيت الوسط». فلم يحصل قبلاً ان تلاقت مختلف القيادات الروحية الاسلامية والمسيحية على موقف موحد كما هو حاصل اليوم.
فالشلل الحكومي وطريقة إدارة الازمة جعلت هذه القيادات الروحية في موقع المناهض لبعبدا، وان كانت بكركي قد شكلت رأس الحربة فلم يعد سراً انها تتعرض لحملات قاسية جنّدت لها وسائل عدة لثَنيها عن موقفها فيما هي تتمسّك به ليس على خلفية موقعها المسيحي وإنما من موقعها الوطني. ومرد ذلك كما تقول اوساطها في السر والعلن الى ان الأجواء المتوترة عطّلت منذ تشرين الثاني الماضي تشكيل الحكومة الجديدة. وتعددت عناوين المواجهات وبقيت التشكيلة الموعودة تنتظر استحقاقاً بعد آخر، فلا هي ولدت ولا حلت اياً من المعضلات الاخرى. لا بل فقد تفاقمت الأمور على خلفية التشابك بين مجموعة الازمات النقدية وترددات جائحة كورونا قبل ان يزيد من مخاطرها انفجار المرفأ، تزامناً مع اخطر ازمة مالية ونقدية تعيشها البلاد والتي لم تشل القطاع المصرفي فحسب، بل انسحبت نتائجها على المؤسسات الادارية والعسكرية والامنية والخدماتية وجعلتها في حال يرثى لها عدا عن المخاوف ممّا تنتظره البلاد من انهيارات متوقعة على اكثر من مستوى.
وان توقف المراقبون امام وجه من وجوه الازمة القائمة المتجلّي بالحملة التي تتعرض لها القيادات الروحية المارونية وغيرها، فإنها تنبىء بكثير مما ينذر بما هو أسوأ. فأيّاً كانت النتائج التي أفضى اليها لقاء بعبدا امس بين البطريرك الراعي ورئيس الجمهورية، فإنها لن تخرج عن المدار السلبي الذي حكم العلاقة بينهما. ولن تكون افضل في نتائجها مما انتهى اليه اللقاء مع رئيس التيار جبران باسيل عشية زيارة الحريري للفاتيكان في 22 الجاري. فكل المعلومات التي تسربت من اللقاء أكدت انه لم يكن ايجابياً، ولم يلتق الراعي وباسيل على قراءة واحدة للازمة الحكومية واسبابها كما بالنسبة الى المخاطر المحدقة بلبنان. فالراعي يصرّ على ان الازمة اللبنانية واسعة وشاملة على مستوى جميع المناطق وكل الطوائف، فيما ينظر اليها باسيل على انها اعتداء على الطائفة المارونية ورئاسة الجمهورية.
في اي حال، وان بقيت الامور رهن ما هي عليه، فإنّ مرجعاً مسيحياً بارزاً لا يخفي قلقه على نتائج الفشل المدوي للوساطات الجارية. فتراكم الازمات سيزيد من حجم المخاطر على البلد. وان تناول مظاهر الازمة التي دخلت سلك القضاء فهو يتوقع نتائج كارثية ليس على هذه السلطة فحسب وانما على مستوى الوطن. وهو يرغب في لفت نظر أبطال المواجهة من ضمن القضاء ان ما سيصيبه سيطاول ما تبقى من مؤسسات في البلاد، وان بقيت المؤسسات العسكرية في منأى عن اي انهيار متوقع فإنه سيكون على اللبنانيين إعلان نظامهم الجديد على قاعدة الوصول الى «الجمهورية الشعبية اللبنانية» طالما ان هناك من لا يرى حاجة الى الدستور والقانون ولا الى المؤسسات عند البحث عن المخارج لمجموعة الازمات المتفاقمة.
وعندها، يختم المرجع الروحي بالقول، ان على الجميع تحمّل مسؤولياتهم، معتبراً انّ زيارة الراعي لبعبدا امس قد تكون من المحاولات الاخيرة لِثني المعرقلين عن خطواتهم. فهو لم يكن طارئاً وليس وليد المصادفة، فهو تقرر عقب فشل لقاء الراعي وباسيل وتعثر عملية تأليف الحكومة وبعد اتصال طويل بين الراعي والحريري اثر الانتهاء من لقائه قداسة البابا فرنسيس، وان أضافت المقاطعة الخليجية للمنتجات اللبنانية بنداً جديداً على جدول اعماله، فإنه لم يؤسس الى اي نتيجة ايجابية وعلى من قاد البلاد الى هذه المرحلة ان يتحمل المسؤولية كاملة.