إنَّ المبدأ الذي أرساه الفيلسوف والسياسي ـ ميكافيلي ـ ونظَّر له، هو مبدأ "الغاية تُبرِّر الوسيلة" أي يجوز للإنسان أن يسلك طريق الشَّر والباطل من أجل تحقيق الغاية، من دون قيد أو شرط....
حاول ميكافيلي في كتابه "الأمير" أن يشرعن للحاكم، الأمير السياسي، بأن يستخدم أي وسيلةٍ توصله إلى غايته المنشودة.. بالتأكيد من يحمل بذرة الخير لشعبه وأمته وبلده، دائماً يبحث عن الطرق الشرعية السليمة والخيرة الصحيحة التي تحفظ حياتهم وعيشهم وكرامتهم، وأما من يحمل بذرة الشر ولا يهمه مصلحة بلده وأمته، وإنما غايته الحفاظ على زعامته وتسلطه على شعبه وبلده، غير آبه لكل الطرق والوسائل التي يستخدمها مهما حملت من مخاطر وأضرار، المهم هو الوصول إلى مشروعه، وإن أدَّى به إلى تفقير الشعب وتجويعه، أو إلى سحقه والتعدي على ملكيته الفردية أو ممتلكاته الخاصة والعامة تحت كل هذه الوسائل والتبريرات، وهذا ما أقرَّه ميكافيلي لأميره الذي كان يخدمه، بأنَّ هيبة الأمير أو الحاكم هي أولى من ولاء الشعب وحبه له، وحذَّره من كل الذين ينتقدونه أن يبطش بهم بأية وسيلة للحفاظ على هيبة الأمير والسلطة...
هذا ما يقودنا إلى مفاهيم مطلقة ومطاطية، تحت مظلة الدولة والقانون، وبالتحايل على الدستور، فيستخدم الأمير هذه المظلة لتمرير غايته وهدفه وإن أدَّى إلى قتل معنوي أو سياسي أو تصفية جسدية من أجل الحفاظ على هيبته وهيبة السلطة والدولة...
نعم، هناك قسم من الجماهير والشعب مجرمة من دون شك، تتعدَّي وتسلب وتسرق ، فإنَّ هذا مكفول للدولة بأن تمارس أية وسيلة وطريق للردع وللحفاظ على أمن واستقرار الدولة، هذا يجري في الدولة التي تبسط قوتها وسيطرتها وهيبتها على كافة أراضيها، يعني: دولة وقانون بكل ما تعنيه كلمة دولة وقانون.
أما في التراث الديني الإسلامي، فإنَّ هذه القاعدة غير سليمة..!
لماذا؟؟.. لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُطاع من حيث يُعصى، وإنَّ إحقاق الحق والحقوق لا يكون بارتكاب الباطل والمعصية، أتريدونني أن أطلب النصر بالجور؟ هذا ما قاله حاكم عادل في التاريخ، وهو الإمام علي (ع)، عندما تفرَّق الناس عنه وفرار كثير منهم إلى "معاوية" طلباً لما في يديه من سلطة ونفوذ ومال، فقالوا له يا أمير المؤمنين أعطِ هذه الأموال ـ وظيفة، إستمالة، مركز ديني، دنيوي، قاضي، مفتي، أمين فتوى، مفتي فتنة، أي نساء، وما سواها ـ وفضِّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن تخاف عليه من الناس فرارهم. فقال (ع): أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور،لا والله لا أفعل ما طلعت عليه شمس ولاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنما هو أموالهم. فالخير بنظر الإمام علي (ع) عن طريق الشر والأذية لا حظ له ولا أمل.
إقرأ أيضا : جناية المفكر المغربي سعيد ناشيد
فالذي يطلب العيش بالكذب والنفاق وإعانة الظالمين والناهبين والسارقين والقاطعين لأرزاق الناس تحت أية ذريعة من تلك الذرائع والطرق والوسائل، فهو لصٌ مجرم ـ بحسب تعبير الفقيه محمد جواد مغنية في كتابه ـ الإسلام مع الحياة ـ وبنص القرآن الكريم،(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون) هود ـ آية 113. والظلم يشمل كل هذه المسميات، وبنص أهل العترة المعصومين (ع)، وبالفطرة والوجدان، لأنه كاذبٌ ومنافقٌ وظالمٌ وخدَّاعٌ. فأي طريق أو ما يُسمَّى (الحيلة الشرعية) يستعمله الإنسان توصلاً إلى فعل محرَّم أو ترك واجب، فهو مجرمٌ لا محال، لأنه حلَّل ما حرَّم الله، وحرَّم ما حلَّل.
أما قاعدة (الضرورات تُبيح المحظورات) فهي منوطة بشروط خاصة بالفرد أو المُكلَّف، وبمعايير لها ضوابط شرعية يصبح المحظور مباحاً، وهي بعيدة كل البعد عن قاعدة (الغاية تبرِّر الوسيلة) فهي مقيَّدة بالفرد في حالة الإكراه والإضطرار، فعند الإكراه يجوز الكفر ظاهراً ولا يكون باطنياً قلبياً، ويكون الإضطرار ما يحفظ به الحياة، كالجائع يأخذ من الميتة، فهذا جائزٌ بنص القرآن الكريم وبالعقل والوجدان، (فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه) البقرة ـ آية 173. شريطة ألاَّ يتجاوز حد الضرورة، وهذا ما يسمونه (ارتكاب أخف المحذورين)، وأقل الضررين، أو ما يسمونه ( تقديم الأهم على المهم)، أو الراجح على المرجوح. أما الذي يطلب المعذورية والرخصة تحت عناوين أكبر وأعم من هذه الموارد، من أجل الوصول إلى الغاية تحت وسائل غير نبيلة، فهو على لسان الأئمة الأطهار ورب الأرباب ظالمٌ ومخادع وكاذب ومنافق. ليس في الدين مواربة ومحاباة، لأنَّ الإنسان لربما يميل إلى القاعدة الميكافيلية من دون أن يلتفت، أو يلتفت طالباً بذلك الرُخص والمعاذير، فهذا دين المستعمرين والمستغلين والمستبدين، وقانون عند كل مشعوذ وساحر وخدَّاع، وليس دين ومبدأ الأطهار والمتقين وسبيل الصالحين. وهذا ما ورد عن سيرة الأئمة الأطهار (ع) عن أبي جعفر (ع) قال: (....... يأتي زمان، قومٌ يتبع فيهم قوم، مراؤون يتقرَّؤون ويتنسَّكون حدثاء سفهاء لا يُوجبون أمراً بمعروفٍ ولا نهياً عن منكرٍ إلاَّ إذا أمِنُوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرُخصَ والمعاذير، يتبعون زلاة العلماء وفساد عملهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلمهم ـ لا يضرهم ـ في نفسٍ ولا مال، ولو أضرَّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها....... الكافي ـ ج ـ 5 ـ ص ـ 55)..