في 16 كانون الثاني من عام 2016، عُقد لقاء ماروني موسّع في بكركي تحت جناح البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وانبثقت منه لجنة متابعة، بهدف توحيد الموقف المسيحي حيال ملفات وطنية عدة مطروحة. إلّا أنّ هذا اللقاء وما تلاه من اجتماعات، لم تُساهم في تقريب الأحزاب المسيحية بعضها من بعض، لا بل إنّ الهوّة بين هذه القوى ازدادت ما بعد ذلك التاريخ. إذ إنّ «التيار الوطني الحر» وتيار «المرده» اللذان اجتمعا مرّة تحت راية 8 آذار بات النفور بينهما جلياً، كذلك سلك حزب «الكتائب اللبنانية» مساراً مختلفاً عن كلّ الأحزاب الموالية منها والمعارضة، وتشهد علاقاته بحليفه التاريخي حزب «القوات اللبنانية» فتوراً وابتعاداً وانقطاعاً. وعلى رغم التهدئة والتبريد بين «المرده» و»القوات» إلّا أنّ المواقف السياسية والرؤية الاستراتيجية تفرّقهما. أمّا «الشرخ الأكبر» بالنسبة الى كثيرين فيكمن بين «القوات» و»التيار الوطني» نظراً الى أنهما الحزبان الأكثر تمثيلاً على الساحة المسيحية وفق انتخابات عام 2018.

لا زيارات قواتية للقصر الجمهوري، لا اتصال أو تواصل بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس «القوات» سمير جعجع، كذلك لا اتصال بين جعجع ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، بل مواقف متعارضة، رؤية سياسية مختلفة، اتهامات واتهامات مضادة، وكأنّ «اتفاق معراب» لم يكن، فيما لا يزال النزاع بين قاعدتي الحزبين المسيحيين قائماً، خصوصاً عند أي موقف هجومي لقادة أحد الحزبين ضدّ الحزب الآخر.

 

السجال الأخير بين «القوات» و»التيار» في نهاية الأسبوع المنصرم على خلفية التدقيق الجنائي ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير. وعند كلّ محطة تتكرّر مشهدية السجال كالآتي: يعلّق جعجع أو مسؤولون في «القوات» التي تتصدّر صفوف معارضة العهد والسلطة، على إجراء ما يتخذه عون أو باسيل أو فريق العهد، فيردّ «التيار» نابشاً دفاتر الماضي، وتعود «القوات» بدورها وتردّ بوقائع تاريخية أيضاً، فيبدأ السجال المُكرّر بين المسؤولين والقاعدتين في الحزبين، خصوصاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي.


 
 

هذا الأمر يستدعي بحسب البعض، ومنهم الرابطة المارونية، الى تحرُّك الراعي، ويتطلّب لقاءً بين الفريقين المسيحيين لـ»تصفية النوايا»، خصوصاً بين جعجع وباسيل، إذ إنّ الاختلاف لا يبرّر هذه الحِدة في الخلاف. هذا اللقاء سبق أن طُرح بعد حادثة ميرنا الشالوحي في أيلول 2020، خصوصاً من البطريرك الراعي، إلّا أنّه لم يُعرض جدياً ولم يُعقد. حينها كانت «القوات» رافضة للقاء كهذا، والآن ما زالت متمسّكة بموقفها. هذا فضلاً عن أنّ الراعي الذي يرعى مصالحات ولقاءات كهذه، يبدو أنّه بات يحتاج الى راعٍ للسجال الضمني بينه وبين رئاسة الجمهورية أخيراً، أيضاً على خلفية التدقيق الجنائي، ما أدّى الى بروز عامل مستجدّ تجلّى بهجوم «عوني» علني حاد على المرجعية المارونية الدينية الأعلى، خصوصاً عبر موقع «تويتر» تحت عنوان وهاشتاغ «راعي الفساد»، ووصل الهجوم الى حد المطالبة بتدقيق جنائي في أملاك بكركي في تطوُّر خطير في العلاقة بين شريحة مسيحية - مارونية ومرجعيتها الدينية الأعلى، مع ما يُمثّله البطريرك وطنياً وتمثّله بكركي تاريخياً.

 

وبالنسبة الى لقاء الافرقاء المسيحيين تحت سقف الصرح البطريركي، تؤكد مصادر بكركي أنّ «البطريرك لم يتوقف يوماً عن محاولة التقريب في ما بينهم، وكانت هناك محاولات في الفترة الاخيرة لكن لا تجاوب تجاهها، إذ يعتقد أفرقاء أنهم إذا جلسوا مع آخرين سيساهمون في تعويمهم سياسياً ويفضّلون تركهم يغرقون، فضلاً عن الحسابات الانتخابية والرئاسية. لكن رغم ذلك لن تتوقف المحاولات إن لجهة تفعيل اللجنة القديمة او خلق تشكيل جديد».

 

من جهتها، تؤكد مصادر «القوات» أنّ «أحداً لم يفاتحنا بعقد أي لقاء مع «التيار»، ونرفض مفاتحتنا أساساً بهذا الأمر». هذا الرفض القواتي مردّه الى أنّ «هناك حياة سياسية طبيعية، يحصل خلالها سجالات وخلافات ونقاش سياسي، وبالتالي ليس كلّما اختلف اثنان سياسياً يجب أن يعقدا لقاء مصالحة». كذلك تعتبر «القوات» أنّ مشكلة «التيار الوطني» ليست معها تحديداً إذ إنّ العهد و»التيار» على خلاف مع تيار «المستقبل» وحركة «أمل» وتيار «المرده» و»الحزب التقدمي الاشتراكي» ومع البطريرك الراعي ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان وجميع اللبنانيين. فلماذا لم يرَ أحد إلّا السجال بين «القوات» و»التيار»؟! وترى أنّ «هناك عملية تضخيم لهذا النقاش ليست في محلّها، وربما تكون مقصودة».

 

وتوضح مصادر «القوات» أنه «بالنسبة إلينا تنتهي الأمور عند حدّها وفي وقتها، ومع احترامنا وتقديرنا لأدوار الجميع، لسنا في حاجة الى أن يدخل أي أحد على الخط بيننا وبين «التيار»، ولا نحتاج الى وساطات مع أي طرف سياسي». وتشير الى أنه «لا يوجد أي علاقة مع «التيار» ولا لزوم لأي جلسة من هذا النوع معه». فضلاً عن ذلك تشدّد المصادر نفسها على أنّ «المشكلة الآن ليست بين «القوات» و»التيار» بل هناك أزمة لبنانية يجب حلّها، فإذا جلسنا نحن و»التيار» هل نخرج من الأزمة وننتهي من الجوع والفقر وتؤلّف الحكومة ويزدهر البلد؟ وبالتالي، بدلاً من تلهّي البعض ومحاولته لعب أدوار وفرض وجوده عبر التركيز على العلاقة بين «القوات» والتيار»، فليضع تصوّره لحلّ الأزمة على الطاولة».


 
 

هذا السجال «القواتي - العوني» تزامَن مع هجوم مناصري «التيار» وبعض المسؤولين فيه على البطريرك الراعي، كذلك مع زيارة جعجع، مساء الأحد المنصرم، لدير سيدة اللويزة للرهبانية المارونية المريمية، مهنئاً الرئيس العام الجديد الأباتي بيار نجم، وقال من هناك إنّ «البطريرك الراعي، وخلافاً لتوقعات كثيرين، يلعب الدور نفسه الذي لعبه يوحنا مارون والبطاركة الكبار. فليس قليلاً في هذا الزمن الصعب أن تعود بكركي قبلة الأوساط السياسية المحلية والدولية من عربية وأجنبية، انطلاقاً من قوة مواقف سيّدها التي تدفع حتى وسائل الإعلام العربية وخلافاً لسواه الى التعاطي معه كرأس حربة لبنان، لأنّه لا يدافع عن الموارنة أو عن مصالحه، بل يجسّد مبادئ الكنيسة ويدافع عن لبنان الكيان بجميع ابنائه».

 

البعض رأى في هذه الزيارة وفي كلام جعجع، رداً على عون الذي اعتُبر أنّه استهدف الراعي في «تغريدة» مساء الأحد الماضي كتب فيها: «الفاسدون يخشون التدقيق الجنائي، أمّا الأبرياء فيفرحون به». وأتت هذه التغريدة إثر عظة الراعي التي قال فيها: «الحكومة ثمّ التدقيق الجنائي».

 

لكن مصادر معراب تؤكد أنّ زيارة جعجع للرهبانية المريمية لا علاقة لها برد عون على الراعي، إذ حين كان عون يدوّن «تغريدته» كان جعجع في دير سيدة اللويزة. وتوضح أنّ الزيارة أتت انطلاقاً من العلاقة التي تربط جعجع بنجم وبالرهبانية المريمية، والتي تربط «القوات» بكلّ الرهبنات والكنيسة، لأنّ هناك تكاملاً بين «القوات» والرهبانيات، لا سيما أنّ المناضلين في «القوات» هم رهبان القضية».