جاء الانهيار الاقتصادي في لبنان ليشكّل أسوأ الأزمات، ونتج عن سنوات من الاهمال وسوء الإدارة والأزمات السياسية المتتالية. وبات معه أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة. أزمة الجوع أسوأ من الحرب الاهلية، وفق ما يقول لبنانيون تحدثت معهم وكالة «فرانس برس».
خلال سنوات الحرب الأهلية، اعتادت عبلة باروتا الاحتماء وعائلتها من القذائف كلّما اشتدت المعارك، لكنها اليوم وفي خضمّ أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها لبنان، تقول إنها لا تعرف كيف تحمي نفسها من الجوع والفقر ومن فساد الزعماء.
وتوضح عبلة (58 عاماً)، ربّة المنزل التي تعافت خلال الأشهر الماضية من إصابة بالغة جراء انفجار المرفأ القريب من منزلها، لوكالة «فرانس برس»: «أثناء الحرب، حين كنا نسمع القصف، كنا نختبئ في المنزل أو الملاجئ. لكن اليوم كيف نختبئ من الجوع؟ من الوضع الاقتصادي؟ من كورونا؟ من زعمائنا؟». وتقول: «كانت مخاوفنا أن نموت جراء قذيفة أو قنّاص، لكن اليوم كل شيء يخيفنا، المرض والفقر والجوع». تصمت قليلاً ثم تضيف بحسرة: «أن يموت الفرد جراء قذيفة أفضل، أقله لا يعاني.. بينما نعاني اليوم ونموت ببطء».
وعلى غرار عبلة، يردّد كُثر في جلساتهم وعلى شاشات التلفزة أن ما يشكون منه اليوم تحت وطأة الانهيار الاقتصادي منذ العام 2019 والتدهور الجنوني لليرة والخوف من العوز، لم يشهدوه حتى في أسوأ أيام الحرب الأهلية (1975-1990) التي يحيي لبنان الثلاثاء الذكرى الـ46 لاندلاعها.
بدأ النزاع في 13 نيسان 1975 بين أحزاب مسيحية وفصائل فلسطينية ساندتها قوى إسلامية ويسارية لبنانية، وما لبثت أن تورطت فيه قوى إقليمية أبرزها سوريا وإسرائيل.
وتكرّست خطوط تماس طائفية غالباً، بين المناطق. ورغم فصول مرعبة من العنف والخطف والاغتيالات والقصف، كانت وتيرة الحياة تستأنف عادية كلما سكتت المدافع. ولم تتوقف العجلة الاقتصادية، بينما كانت الجهات المتصارعة تتلقى دعماً وفيراً بالمال والسلاح من الخارج.
وانتهت الحرب بعد توقيع اتفاق الطائف العام 1989، وجولة عنف أخيرة انتهت في 1990. وخلّفت وراءها أكثر من 150 ألف قتيل و17 ألف مفقود. وتقاسمت القوى السياسية التي خاضتها السلطة بعد الحرب، وفشلت في بناء دولة مؤسسات وقانون.
في منزلها الذي أعيد ترميم ما تضرّر منه بفعل انفجار الرابع من آب، والواقع في الطبقة الأولى من مبنى قديم في محلة مار مخايل المتاخمة للمرفأ، تقول عبلة: «رغم بشاعة الحرب، كنّا مرتاحين. لم نعش مثل هذه الأزمة الاقتصادية والقلق. ماذا سنأكل غداً وماذا سنفعل؟ لا شيء من ذلك كله.. كانت حاجاتنا مؤمّنة». وتضيف الأم لثلاثة أولاد: «أحياناً، لا أقوى على النوم خلال الليل» جراء القلق.
«لم نر الدولة»
خلال الأسابيع الماضية، شهدت متاجر إشكالات بين زبائن كانوا يتهافتون على سلع مدعومة من الدولة، وبات العثور على أدوية أو حليب للأطفال أشبه برحلة بحث عن كنز مفقود، وهو ما لم يحصل خلال الحرب الأهلية إلا نادراً ولفترة محدودة.
وباتت عائلات كثيرة في لبنان تعتاش من مساعدات وإعانات تقدمها جهات مانحة أو حتى أحزاب.
في محلّة الكرنتينا الملاصقة للمرفأ، يروي جان صليبا (63 عاماً)، مختار المنطقة سابقاً، لـ»فرانس برس»، قصص عائلات تدمرت منازلها أو تضررت، أو فقدت أفراداً جراء انفجار بيروت.
ويقول الرجل، بينما يرد على تحيات من المارّة في الشارع: «لم نر الدولة» منذ الانفجار، «ولولا المساعدات المادية والغذائية من الجمعيات، لما كان الناس يقوون على الاستمرار».
ويتحدث بمرارة عن «نكبة جماعية» ألمّت بسكان المنطقة. ويقول إن ما تعرضوا له في أحلك جولات الحرب «نقطة في بحر» مآسي الانفجار. حينها «كان الفرد يتوجّه إلى عمله خلال النهار.. وثمة فترات جنى فيها الناس المال. كانت هناك بحبوحة لم تعد موجودة اليوم» في بلد لامست فيه نسبة البطالة عتبة 40 في المئة.
ويقول: «أين البحبوحة اليوم ومن هو القادر على أن يجني المال؟ الأشغال توقّفت واقتصاديّاً انتهَينا. نحن اليوم بلد يعيش على التسول».
«ولّت الأيام الحلوة»
إذا كان «جيل الحرب» صمد بمواجهة القذائف، فإن «الحالة الاقتصادية في ظل دولة لا تسأل» عن المواطن هي «ما تخيف» الناس جميعاً اليوم، وفق جان الذي يعتاش من محل لبيع اللوتو.
ورغم كل هذا المشهد المأسوي والنقمة الشعبية على الطبقة السياسية، ما زالت القوى السياسية عاجزة عن إيجاد حلول لأزمة أسقطت حكومتين، وقد مضت أشهر على استقالة الثانية، وفاقمها تفشي فيروس كورونا ثم انفجار المرفأ.
على بعد كيلومترات عدّة في غرب بيروت، يواظب فيكتور أبو خير (77 عاماً) منذ العام 1965 على فتح صالونه للحلاقة، رغم أنّه منذ أشهر، كما يقول: «تمرّ أيام يحضر فيها زبون أو بالكاد إثنان».
ولقد تعرّض هذا الرجل للخطف خلال الحرب الأهلية، وأُطلق الرصاص على محله، لكن ذلك في رأيه كان «أرحم» من تداعيات التدهور الاقتصادي. ويقول: «نواجه اليوم الجوع».
ويضيف: «لا أحد يحبّذ الحرب، لكن تلك الأيام كانت أفضل». ويروي كيف كان يقفل محله فقط عندما يشتد القصف، مضيفاً باللهجة المحكية «كان في ليرات، والناس مرتاحين».
ويسأل بغضب: «هل من الحلال أن يأخذوا أموال الناس الذين وضعوا جنى عمرهم وتعويضهم (في المصارف) ليكون في إمكانهم أن يعيشوا بكرامة؟». وتفرض المصارف منذ العام 2019 قيوداً مشددة جعلت المودعين عاجزين عن التصرّف بأموالهم خصوصاً بالدولار، بينما فقدت الودائع بالليرة قيمتها.
في منطقة رأس بيروت، يقصد زبائن قليلون محل سمير حداد (83 عاما) المتواضع لإصلاح آلات كهربائية، بعدما كان أربعة موظفين يعملون لديه خلال الحرب في صالة عرض أنيقة.
تغلبه دموعه ويشهق بالبكاء عندما يتذكر «أيام العز» في بيروت. ويقول: «الوضع اليوم قاس جداً.. أصلّي لربّي أن يحمي البلد الى أن يتحرك ضمير» المسؤولين. ويضيف «ولّت الأيام الحلوة، ولّت».