الفساد المُرعب ينخر مفاصل النظام اللبناني برُمّته منذ العام ٢٠٠٥ حتى الآن، والعام المذكور هو عام انتهاء عهد الوصاية السورية، صحيحٌ أنّ الفساد لم يكن غائباً طيلة هذا العهد، إلاّ أنّه كان محدوداً، أو تحت السيطرة كما يقال عادةً. بعد الخروج السوري من لبنان، يمكن القول: "فلت الملقّ" كما يقول أهل القرى والأرياف المزارعون، أي أنّ سيل الفساد بات بلا سدِّ أو حاجز، وبات حيتان الفساد طليقي اليد في نهب ممتلكات الدولة ومالها، ففي ظلّ فقدان الميزانية العامة للدولة وسريان الإنفاق والصّرف وِفق القاعدة الاثني عشرية، والتي يمكن تجاوزها بسهولة فائقة، وقعت الواقعة، ناهيك عن ميزانيات المجلس النيابي ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية التي تفوق الخيال وتفضح كلّ مستور، أمّا ميزانيات المجالس الخاصة الضخمة فقد عشّش فيها الفساد وباض وفرّخ، من مجلس الإنماء والاعمار إلى مجلس المهجرين ومجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة (لنتذكر فقط أنّ رئيسها السابق وهب زوجته مليوني دولار أمريكي من ميزانيتها)، أمّا مغاور الهدر في المصالح والمؤسسات المستقلة فحدّث ولا حرج، من الكهرباء والماء والاتصالات والمرفأ والمطار ومصرف لبنان والبريد الذي قُدّم هدية لشركة خاصة، ويزيد الطّين بلّةً الهبات والتبرعات والمساعدات والمنح التي تُغدق على جمعيات ومراكز نفوذ تدّعي أنّها لا تتوخى الربح ( في حين تتوخى الهدر ونهب المال العام).
إقرأ أيضًا: سؤالٌ مؤرق..لماذا سمحت الأمبريالية الأميركية لنصرالله باستباحة لبنان؟
هذا غيضٌ من فيض سوء الإدارة المالية العامة المتفاقم، ولعلّ أبرزها واخطرها قانون تقاعد الرؤساء والنواب السابقين، والامتيازات التعسفية الممنوحة للحاليّين، فضلاً عن الميزانيات التي يُبددها كبار المسؤولين المدنيّين والعسكريين والقضاة، أما فضائح الصفقات فهي أدهى وأمرّ.
اليوم، النظام اللبناني يتمسّك بخشبة أموال "سيدر" الموعودة، إلاّ أنّ تلك الأموال لن تتوفر لحُسن الحظّ، إلاّ بقيام الحكومة اللبنانية بالإصلاحات المالية الضرورية وفي مقدمتها تقديم موازنة العام الحالي المقرونة بإصلاحات اقتصادية ومالية رصينة وحقيقية لتخفيض العجز وإرشاد الإنفاق الحكومي وتنمية الإيرادات العامة( في أواخر أيام الإمبراطورية العثمانية التزمت السلطنة بتقديم ميزانية سنوية ضمن الإصلاحات التي فرضتها الدول الأوروبية عليها)، ويبدو النظام اللبناني اليوم عاجزاً عن القيام بهذه المهمة المستحيلة، ويتخبّط أركانه تائهين حائرين عاجزين عن إصلاح ما أفسده الدهر، رغم حذلقات "العطّارين" الذين استفاقوا اليوم بعد فوات الأوان، ومعظمهم دهاقنة الفساد الذي نغرق في مستنقعه اليوم، وإذ يتفاجأ اللبنانيون الآن انّهم باتوا على شفا حُفرةٍ من الانهيار، فهم ربما يحلمون بعهد وصاية جديدة، لا يقوم بها الأشقاء العرب (عندهم ما يكفيهم من الازمات)، فلا يبقى إلاّ أن تتقدم الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا، لفرض الوصاية على حُكّامٍ مكانهم الطبيعي السجن لا كراسي الحكم، وعلّهم يكفّون عن إطلاق محاضرات العفّة والطهارة والاستقامة، وأضعف الإيمان أن يُعاملوا كقاصرين يحتاجون للوصاية والرشاد، والله المستعان على كلّ حالٍ ومآل.