يستمرّ تعطيل تأليف الحكومة، ويستمرّ معه الإنهيار في لبنان الذي يطاول قطاعاته كلّها، وبالتوازي يواصل المجتمع الدولي إظهار حرص على بلد الرسالة فيما للمعنيين بالتأليف رسائل أَولى، يبعثون بها بعضهم لبعض علناً أو همساً، وسواء كانت مكشوفة أو مُشفّرة، إلّا أنّها لا تحوي سوى مزيد من التأزيم حكومياً. هذا الوَضع، بعد أكثر من 5 أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة في وقتٍ تفقد الليرة أي قيمة لها أمام الدولار الأميركي وبات لبنان بركان وجع وجوع ما يلبث أن يقذف حمماً تحرق ما تبقّى من الداخل وتهدّد محيطه، دَفعَ الأوروبيين، والفرنسيين تحديداً، الى الانتقال من اعتماد سياسة الجزرة مع المسؤولين اللبنانيين الى التلويح بسياسة العصا، والتي يبدو أنّها باتت قريبة، وستكون بالتنسيق مع واشنطن، وتشكّل سابقة من نوعها.
لا شك في أنّ التمسّك الغربي بعدم انهيار لبنان، ينطلق من أهداف ومصالح خاصة لدول الغرب من فرنسا وصولاً الى الولايات المتحدة الأميركية، لكن بدلاً من أن يستفيد المسؤولون في لبنان من هذا الحرص على وجود بلدهم، يديرون ظهورهم لهذا الاهتمام، مولين الأهمية القصوى لمصالهم وأهدافهم الخاصة، أو لمصالح وأهداف خارجية أخرى لا تصب في إطار المصلحة اللبنانية الوطنية.
إنطلاقاً من ذلك، تتدرّج الرسائل الفرنسية - الأوروبية - الأميركية، فبعد ضَخ معلومات صحافية عن عقوبات على المسؤولين الذين يعرقلون التأليف في لبنان، دفعاً الى إنجاز عملية التأليف سريعاً، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 18 آذار الحالي أنه «خلال الأسابيع المقبلة وبطريقة واضحة ومن دون أدنى شك، نحتاج الى تغيير النهج والاسلوب في لبنان، لأننا لا يمكننا أن نترك الشعب اللبناني يتخبّط منذ آب الماضي في الوضع الحالي»، مشدداً على «وجوب تجنُّب انهيار البلد، لذلك المطلوب الإسراع في تأليف حكومة وتنفيذ الاصلاحات المرجوّة». وها هو وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان يترجم كلام رئيسه بطريقة واضحة، مباشرة وصارمة، بحيث إتصل أمس الأول بكلّ من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري والحريري، وأبلغ إليهم «وجوب إنهاء التعطيل المتعمَّد فوراً للخروج من الأزمة السياسية». كذلك لفت الوزير الفرنسي أمام الرؤساء اللبنانيين إلى أن هناك تفكيراً على مستوى الاتحاد الأوروبي في تحديد سبل للضغط على المتسبّبين في التعطيل.
كلام لودريان المباشر والمُعلن، يؤكد أنّ الفرنسيين لن يتخلوا لا عن لبنان ولا عن مبادرتهم، وسيعتمدون الوسائل كلّها، دفعاً الى ولادة الحكومة ثمّ إجراء الإصلاحات. وبالتالي، الحؤول دون الانهيار التام، الذي قد يُشعل فوضى أو حرباً أهلية، ويؤدي الى نزوح لبناني - سوري - فلسطيني الى أوروبا، فضلاً عن تداعيات هذا الانهيار على جوار لبنان، بدءاً من إسرائيل وسوريا وصولاً الى العمق العربي وساحل البحر المتوسط.
لكن هل يؤتي التهديد بالعقوبات ثماره؟ أم أنّ اللعب على حافة الهاوية سيستمرّ الى أن «يستحقها» المعنيون وتُفرض هذه العقوبات عليهم؟ هذا إذا شكّلت هذه العقوبات عاملاً رادعاً للمعنيين، ولم يعتبروا أنها تدخل خارجي وأنّ أهدافها سياسية، مثلما اعتُبرت العقوبات الأميركية على رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل.
في الحالات كلّها، إذا فُرضت هذه العقوبات الأوروبية السياسية ستكون سابقة والأولى من نوعها، إذ لم يسبق أن فُرضت أي عقوبات أوروبية سياسية على مسؤول لبناني. كذلك، ترى مصادر ديبلوماسية أنّ العقوبات الأوروبية ستحصل بتنسيق مع واشنطن، وأنّها ستكون مكمّلة للعقوبات الأميركية، بحيث يُمنع المسؤول الذي ستُفرض عليه العقوبات من السفر الى كلّ من الولايات المتحدة الأميركية ودول الإتحاد الأوروبي إضافةً الى الحجز على أمواله وممتلكاته في هذه الدول كلّها. وتشير المصادر نفسها الى أنّ العقوبات الفرنسية - الأوروبية ستكون متكاملة مع العقوبات الأميركية، ومن النوع نفسه، وقد تكون مؤثرة أكثر من تلك الأميركية، لأنّ كثيرين من الذين قد تُفرض عليهم عقوبات تربطهم علاقات بفرنسا أهم بكثير من علاقتهم بواشنطن، إن لجهة إيداع أموالهم أو علاقاتهم التجارية أو حتى على صعيد علاقاتهم الاجتماعية وأسفارهم.
وجهة النظر هذه يعزّزها اعتراض الإدارة الفرنسية على توقيت فرض واشنطن عقوبات على باسيل، بحيث دعت الى أن يكون توقيت العقوبات متوازياً، فإذا لم تأتِ في وقتها فإنها لن تؤدي الى نتيجة. وبالتالي، قد تكون العقوبات الآن متوازية بتوقيتها وفعاليتها. وقد تُفرض عقوبات فرنسية - أوروبية على من سبق أن فرضت واشنطن عليهم عقوبات، وقد يكون هناك عقوبات ثنائية على مسؤولين لم تطاولهم العقوبات سابقاً.
علماً أنّ الأهداف الأميركية والفرنسية المختلفة في لبنان، قد تؤدّي الى عقوبات غير متوازية توقيتاً، بحسب ما تشرح المصادر الديبلوماسية، إذ صحيح أنّ هذه الدول كلّها تريد عدم انهيار لبنان، إلّا أنّ أجنداتها وأسبابها مختلفة، فقد تفرض واشنطن عقوبات للدفع الى استئناف المفاوضات مع إسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية، مثلما فعلت سابقاً، بلا أي تنسيق مع الأوروبيين.
هذا سياسياً، أمّا تقنياً، ففي حين هناك في الولايات المتحدة قوانين كثيرة تمكّن الإدارة الأميركية من فرض عقوبات حتى «على الطير الطاير»، مثل قوانين الإرهاب و»ماغنيتسكي» المرتبط بالفساد والعقوبات المالية التي تفرضها وزارة المال، إلّا أنّ العقوبات الفرنسية تتطلّب توافقاً أوروبياً الى حد كبير، فليس هناك من قانون محدّد للعقوبات، بحسب ما توضح المصادر الديبلوماسية. وانطلاقاً من ذلك، ومن كلام لودريان، ترى أنّ العقوبات في حال اعتُمدت ستصدر عن الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن أنّ أي عقوبات فرنسية أحادية لن تؤتي ثمارها.
وقبل هذه العقوبات، وترجمةً لكلام ماكرون عن تغيير الأسلوب والطريقة في لبنان، تشير المصادر إيّاها الى أنّ هناك طرقاً وأساليب ضغط ديبلوماسية عدة، مثل الاتصالات والتهديدات غير المُعلنة، فليس بالضرورة فرض عقوبات بل أحياناً يأتي التهديد بها بالمفعول نفسه، بحيث قد يتلقى المسؤولون المعنيون اتصالاً ينبّه الى أنّ «هذا التصرف يؤدي الى عقوبات صارمة، فاحذروا». وهذا الجو القائم حالياً، جزء منه مُعلن وجزء آخر غير مُعلن، بحسب المصادر نفسها، فيما أنّ الأساس والجديد والعصا الكبيرة التي ستظهر، هي العقوبات.