عندما أعلن الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب في العام 2018 انسحابه من الإتفاقية النووية التي كانت معقودة مع إيران في عهد الرئيس باراك أوباما بمشاركة الدول الأربع الأخرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا، تعرّض لانتقادات كثيرة من قبل أخصامه في الحزب الديمقراطي وخاصة من جو بايدن الذي كان يخطط في ذلك الوقت لترشحه للرئاسة، بعد أن كان قد أدّى دورا بارزا في عقد هذه الإتفاقية مع إيران عندما كان نائباً للرئيس أوباما.
أثناء حملته الإنتخابية في خلال العام 2020، ركز بايدن على هذا الموضوع مُعلناً، في أكثر من مناسبة، استعداده لإعادة الولايات المتحدة الى الإتفاقية النووية مع إيران في حال فوزه بالرئاسة، وبعد دخوله البيت الأبيض واستلامه زمام الحكم، أعطى مؤشرات وتلميحات عن رغبته بالعودة الى الإتفاقية، ولكنه ربط ذلك برجوع إيران عن مخالفتها لبعض بنود الإتفاقية التي حصلت كردة فعل على انسحاب ترامب منها وفرضه عقوبات إضافية قاسية على إيران.
في أول خطاب ألقاه بايدن في مبنى وزارة الخارجية بعد أسبوعين من تسلمه الرئاسة حيث أعلن الخطوط العريضة لسياسته الخارجية مشدداً على عودة الدبلوماسية كوسيلة لتعاطي بلاده مع سائر دول العالم خلافاً للطرق غير الدبلوماسية التي كان يتبعها سلفه ترامب، لم يأت على ذكر إيران وملفها النووي لا من قريب ولا من بعيد، ما فسّره المراقبون بأن السياسة الأميركية الجديدة تجاه إيران ما زات قيد الدرس.
عندئذ، وبالإضافة الى تأكيد الرئيس بايدن على اتباع الأساليب الدبلوماسية في علاقات بلاده الخارجية، بدأ أخصامه يروّجون بأنه رئيس ضعيف لن يستطيع الوقوف في وجه إيران، وأنه سيرضخ للشروط الإيرانية المطالبة بعودة الولايات المتحدة الى الإتفاقية قبل أن تتراجع إيران عن مخالفاتها. هذا مع العلم أن إيران، منذ انتخاب بايدن، بدأت ترفع سقف شروطها وتطالب واشنطن بالعودة أولاً الى ما كان عليه الوضع قبل الإنسحاب الأميركي لكي تعود هي بدورها الى تنفيذ موجباتها كما في السابق.
تجاه هذه المواقف، ولتثبيت جديته وحزمه في معالجة الشؤون والقضايا الدولية، بدأ بايدن يأخذ مواقف جريئة ومتصلبة ليس فقط تجاه إيران، بل أيضاً حيال روسيا والصين.
أولاً: بالنسبة الى إيران: وجّه بايدن رسالة حاسمة ومباشرة لإيران عندما أعطى الأوامر للقوات العسكرية الأميركية للقيام بقصف جوي لمواقع مقاتلين مدعومين من إيران على الحدود السورية - العراقية، وذلك ردا على عملية عسكرية حصلت في إربيل وأدّت الى مقتل متعاقد مدني وجرح عدد من المدنيين يعملون مع القوات العسكرية الأميركية. شكّلت هذه الضربة الجوية «ردا عسكريا متناسبا» على الهجوم الذي شنّه المقاتلون في اربيل وفقاً لبيان وزارة الدفاع الأميركية، وفي ذلك رسالة مزدوجة واضحة لإيران مفادها أن الولايات المتحدة جاهزة من جهة للقيام بأي عمل عسكري ولن تسمح لإيران بأي اعتداء على قواتها، ومن جهة ثانية فإنّ عدم القيام بعملية عسكرية كبرى ضد إيران والإكتفاء بهذا الرد «المتناسب» يعني أن الولايات المتحدة جاهزة أيضا للتفاوض الدبلوماسي، ولكن من نقطة قوة وليس من نقطة ضعف.
ثانياً: بالنسبة الى روسيا: حاول الرئيس بايدن إعطاء انطباع بأن إدارته ستكون حازمة في تعاطيها مع روسيا ومع الرئيس فلاديمير بوتين بالذات، إذ عندما سئل في مقابلة متلفزة ما إذا كان يعتبر الرئيس بوتين قاتلا، لم يتردد كثيراً قبل أن يجيب بنعم، وبأنّ الإجراءات التي ستتخذ ضده ستظهر قريباً.
الرئيس بايدن يولي موضوع حقوق الإنسان والحريات العامة أهمية كبرى، وهو كان يلوم سلفه ترامب لعدم انتقاده بوتين لتجاوزه هذه الحقوق، كما أنه أعرب في أكثر من مناسبة عن قلقه تجاه اتهام اجهزة الأمن الروسية بتسميم الناشط الروسي المعارض أليكسي نافالني ومن ثم سجنه، ولذلك هو يريد أن يظهر بمظهر الرئيس القوي الذي، وإن كان يركز على استعمال الأساليب الدبلوماسية في تعاطيه، إلّا أن مواقفه مرتكزة على حزم وصلابة.
كذلك يوجّه بايدن انتقادات قوية للخروقات الالكترونية الروسية، سواء أثناء انتخابات 2016 دعماً لترامب أو في العام 2020 حيث أجمعت المؤسسات الأمنية الأميركية على أن روسيا اخترقت حسابات عدة إدارات أميركية بما فيها إدارات أمنية، وقد أثار بايدن هذا الموضوع مع الرئيس بوتين أثناء اتصاله به بعد دخوله البيت الأبيض بأيام، كما أثار موضوع أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وهي من المواضيع الخلافية بين الدولتين.
ثالثاً: بالنسبة الى الصين: تأتي علاقة الولايات المتحدة مع الصين في طليعة أولويات السياسة الخارجية في عهد بايدن. ونظراً للقضايا المتشعبة التي تهم الإدارة الجديدة في هذه العلاقة والتي لا بد من التطرق اليها، فإنّ بايدن شاء، هنا أيضا، أن يعطي العالم عامة والصين بصورة خاصة، انطباعاً بأنه لن يتهاون ولن يلين في معالجة السلبيات القائمة حاليا في العلاقة بين الدولتين.
أهم المواضيع الخلافية بين الصين والولايات المتحدة هي مسألة جزيرة تايوان، والوضع في هونغ كونغ، واتهام الصين بإبادة الأقلية المسلمة من الأويغور في مقاطعة شينجيان الغربية، واتهامها أيضاً بالقيام بعمليات تجسس تجاري، والوضع في جنوب بحر الصين، وهي كلها أمور هامة للولايات المتحدة، والرئيس بايدن يود أن ينطلق في أية مفاوضات قادمة مع الصين من قاعدة قوية تجسّدت أثناء لقاء وزير خارجيته أنطوني بلينكن مع الوفد الصيني في مدينة أنكوراج في ولاية ألاسكا الأميركية منذ أسبوعين.
هذه الرسائل الموجهة الى الدول الثلاث المتخاصمة مع الولايات المتحدة تعني إيران أكثر مما تعني الصين وروسيا. فالخلاف مع هاتين الدولتين ليس من الأمور المستعجلة التي ينبغي إيجاد حل لها بصورة عاجلة كونها بمعظمها أوضاع قائمة منذ سنوات طويلة، بينما الملف النووي الإيراني يكتسي طابع السرعة، إذ انّ عدم إعادته الى السكة السليمة عبر عودة الولايات المتحدة وإيران إليه سيؤدي الى تمكين الدولة الإسلامية من إنتاج السلاح النووي، وهذا ما حمل الولايات المتحدة والدول الشريكة الخمس الأخرى منذ بضع سنوات على التفاوض مع إيران وصولاً الى الإتفاقية التي وضعت حداً للتقدم الإيراني في هذا المجال.
إن وعود بايدن بالعودة الى الإتفاقية النووية أثناء حملته الإنتخابية أعطى انطباعا، خاصة لدى الدول الأوروبية الموقعة عليها، بأنه سيتخذ قرارا رئاسيا بعد دخوله البيت الأبيض بتنفيذ هذا الوعد وإلغاء العقوبات الإضافية التي فرضها ترامب على إيران بعد انسحابه الأحادي من الإتفاقية، فتعود إيران أيضاً الى الإلتزام بتعهداتها، ولكن الشروط المتبادلة التي وضعتها كل من الولايات المتحدة وإيران حالت دون حصول أي تقدم حتى الآن بالرغم من المساعي الحثيثة التي بذلتها فرنسا وبريطانيا وألمانيا في هذا السبيل.
والآن، بعد أن وجّه بايدن رسائله الى إيران، سواء عبر الضربة العسكرية أو عبر عدم الإسراع بالعودة الى الإتفاقية النووية، هل ستتمكن كل من إيران والولايات المتحدة من تخطي العقبات الشكلية والتقدم نحو بعضهما البعض وصولاً إلى إعادة الأمور الى ما كانت عليه قبل انسحاب ترامب من الإتفاقية؟
إيران لها مصلحة بإعادة إحياء الإتفاقية لأن في ذلك إلغاء للعقوبات التي فرضها ترامب بعد الانسحاب، وهذا ما سيمكّنها من تصدير منتجاتها النفطية وإنعاش اقتصادها واستعمال الأنظمة المصرفية العالمية ما سيسهّل تعاملها مع الدول الأخرى. والولايات المتحدة أيضا لها مصلحة في العودة الى الإتفاقية لأنّ الثقة بتوقيع اتفاقات معها قد تزعزعت، ومن المفيد لها أن تعيد هذه الثقة الى الحلفاء كما الى الأخصام، بالإضافة الى أن لها مصلحة واضحة بأن لا تنتج إيران أسلحة نووية قد تستعملها مستقبلاً أو تؤمّن وصولها الى منظمات إرهابية معادية للولايات المتحدة وحلفائها.
لا بد أيضا من التوضيح هنا أن عدم عودة بايدن حتى الآن الى الإتفاقية النووية ليس فقط من باب إظهار الصلابة في الموقف الأميركي، بل هنالك تدخلات تمارسها إسرائيل والسعودية عبر حلفائهما في الكونغرس للضغط على بايدن لترك الأمور كما هي الآن، علماً انّ هاتين الدولتين كانتا ضد الإتفاقية منذ البداية ولا تحبذان أي تقارب بين الولايات المتحدة وإيران.
هل ستنجح الدول الأوروبية في وساطتها بين إيران والولايات المتحدة؟ وهل ستقبل إيران بشروط بايدن التي تطالب بالتفاوض أيضا على صواريخها الباليستية وامتداداتها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان؟ وهل ستقبل الولايات المتحدة بالاكتفاء بالعودة الى الإتفاقية النووية التي ستنتهي مدتها بمطلق الأحوال بعد بضع سنوات تاركة النفوذ الإيراني يتمدد في المنطقة؟ الأسابيع القادمة ستحمل الإجابة عن هذه التساؤلات، إلا أن أية نتيجة تنتهي إليها هذه الأمور سيكون لها انعكاسات مباشرة على الوضع في لبنان.
فبالنسبة الى لبنان بالذات الذي يرى مصيره مرهوناً بمستقبل العلاقات الأميركية-الإيرانية المرتبطة ارتباطا كاملا بما سيستجد بموضوع الإتفاقية النووية التي أصبحت مجهولة المصير، يجدر التنويه بمبادرة قامت بها منظمات لبنانية-أميركية مع إدارة بايدن سعياً الى حمل هذه الإدارة على إيلاء القضية اللبنانية اهتماما خاصا، وذلك عبر دراسة مفصلة من عدة خطوات تقترحها على إدارة بايدن، أهمها القيام بمبادرة دولية تجاه البرلمان والمسؤولين اللبنانيين، وإنشاء صندوق دولي لتقديم مساعدات للشعب اللبناني مباشرة وبمعزل عن المؤسسات الحكومية، وكذلك جعل لبنان نقطة اهتمام خاص لإدارة بايدن بحيث يتم إيلاء جهد خاص لمساعدة لبنان وجعله مثلاً يحتذى به في جهود الإدارة الأميركية لمحاربة الفساد عالمياً.
تجدر الإشارة الى أنّ هذه الدراسة والإقتراحات جاءت نتيجة لجهود مشتركة قام بها كل من «فريق العمل من أجل لبنان» الذي يترأسه إدوارد غبريال الذي كان سفيرا للولايات المتحدة في المغرب وتربطه علاقات جيدة مع وزير الخارجية الحالي، و»معهد الشرق الأوسط» الذي يترأسه الدكتور بول سالم، والمنظمة المعروفة باسم «لايف» التي تضم مجموعة من الشخصيات المالية اللبنانية.
ولكن بالرغم من أهمية هذه المنظمات وقربها من شخصيات فاعلة في إدارة بايدن، هنالك شكوك قوية في تبنّي أي قرار أميركي في الوقت الحاضر تجاه لبنان قبل بَت موضوع الإتفاقية النووية مع إيران، وما إذا كانت ستحصل مفاوضات حول التوسع الإيراني في المنطقة وفي لبنان بصورة خاصة.