كان لافتاً هذا التحرك المفاجئ والمكثف لعدد من السفراء المعتمدين في لبنان، والذين يمثّلون العواصم الفاعلة. وفيما تعمدت السفيرة الاميركية دوروثي شيا إقران تحركها ببيان مكتوب بعناية من امام قصر بعبدا، وهو بيان شاركت فيه الدوائر المختصة في وزارة الخارجية الاميركية، فإنها استكملته بشرح أوضح عبر الاعلان وحمل عبارات غير مألوفة في اللغة الديبلوماسية كمِثل «خلص».
كان الهدف من الرسالة الاميركية واضحاً وهو التحذير من مستوى الخطورة الذي وصل اليه لبنان، وبأن واشنطن تدعم بقوة الذهاب الى تسوية لإنقاذ الوضع، لأن الانفجار الذي بات قريباً جداً ينذر بمضاعفات لا يمكن أن تُحتوى لاحقاً. أضف الى ذلك التأكيد على الموقف الاميركي الذي جرى وضعه سابقاً في اطار التشويش على المبادرة الفرنسية. وانّ الدخول الدولي على خط الازمة الحكومية اللبنانية يكشف جانباً من الكباش الحاصل في الشرق الاوسط، والذي حشر لبنان نفسه فيه بسبب سلوك اهل السلطة وأدائهم و"طمعهم".
ففي المنطقة شد حبال قوي حول التفاهم الاميركي - الايراني، والضغط يتصاعد خصوصاً حول ملف الصواريخ البالستية الذي تريد ادارة جو بايدن وضعه على الطاولة، فيما ترفض طهران الاقتراب منه بأي شكل من الاشكال.
في الخطاب الاخير لمرشد الثورة الايرانية السيد علي خامنئي في عيد النوروز ثمة دلالات معبرة. فبخلاف خطاب العام الماضي الذي غلبت عليه الكآبة، جاء خطاب هذا العام اكثر تفاؤلاً.
في العام الماضي تحدث عن سفينة تبحر وسط مياه عاصفة وتصارع للوصول الى الساحل، فيما طمأن في خطاب العام الحالي بأنّ البحار تهدأ وأن السفينة باتت على مقربة من الشاطئ.
وبعد خطابه بأيام قليلة، وقّعت ايران مع الصين اتفاقية اقتصادية ضخمة مع الدولة التي تتحضّر ادارة بايدن لخطة طويلة لاحتواء تمددها على الخارطة العالمية. الاتفاقية جاءت مفاجئة، إن لقيمتها والبالغة حوالى 400 مليار دولار، وخصوصاً لجهة المدة المنصوص عنها والتي تصل الى 25 سنة. وهي تطالب العديد من المجالات الحيوية مثل المصارف والاتصالات والموانئ وسكك الحديد والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات...
لكن وبعد شيء من التدقيق، يظهر انّ الاتفاق جاء لمصلحة الصين اكثر منه لمصلحة ايران. ويعتقد خبراء بأنّ الصفقة أتاحت بيع موارد ايران، وجاءت شبيهة باتفاقات حصلت سابقاً مثل الاتفاق مع دولة سيرلنكا.
في المقابل، لفت التسريب الذي حصل عبر صحيفة «وول ستريت جورنال» الاميركية حول احتمال استيلاء حركة طالبان على السلطة في افغانستان. صحيح انّ التسريب جاء على شكل تحذير الاستخبارات الاميركية لبايدن من مخاطر الانسحاب الاميركي من افغانستان، لكن الهدف الفعلي له كان تحذيراً لإيران.
شد الحبال القائم بين الاميركيين والايرانيين لتحسين شروط التفاوض، طال ساحات عديدة في الشرق الاوسط، بما فيها الساحة اللبنانية.
وجاء كلام مساعد رئيس مجلس الشورى الايراني حسين عبد الامير اللهيان ليؤشّر الى الدخول الايراني المباشر على خط الازمة الحكومية اللبنانية.
اللهيان وضع معادلة جديدة، وهي ثلاثية المقاومة والجيش والحكومة القوية. وجاء كلامه مكملاً لكلام امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي كان طرح حكومة تكنوسياسية. فالحكومة القوية تعني وفق هذا المنظار حكومة تضم سياسيين، والمقصود هنا طبعاً التمثيل السياسي المباشر لـ»حزب الله» وحلفائه. لذلك، سالَ لعاب رئيس «التيار الوطني الحر» الذي يطمح لعودته الى الحكومة كسبيل لإعادة تعويم نفسه وإحياء دوره في استحقاقي النيابة والرئاسة. صحيح أنّ مصالح «حزب الله» تتقاطع مع مصالح التيار الوطني الحر، لكن مصالح الاول اقليمية واسعة، فيما مصالح الثاني محلية وضيقة.
في الواقع لم تشأ ادارة جو بايدن الدخول مباشرة على خط الملف اللبناني، وهي وضعت برنامجها على اساس إنجاز التسوية مع ايران اولاً، وثم التفاهم على الخارطة الجديدة للنفوذ في المنطقة. وهي تدرك ان مفاوضاتها مع ايران ستكون صعبة، خصوصاً في ملف الصواريخ البالستية. لكن ثمة تحركات جديدة في الولايات المتحدة الاميركية حول الوضع اللبناني، ذلك أنّ عدداً من النواب الذين ينتمون الى الحزبين الديموقراطي والجمهوري يعملون على درس توصية في لجنة العلاقات الخارجية في مجلسي النواب والشيوخ حول الوضع في لبنان.
ومن المفترض ان تأخذ هذه المشاورات حيزّاً اوسع خلال الايام المقبلة. كذلك وعلى مستوى آخر، عقدَ معهد الشرق الاوسط وفريق العمل الاميركي الخاص بلبنان نقاشات حول المستوى الخطير الذي وصل اليه الوضع اللبناني، وذلك بالتعاون مع بعض الخبراء والمتخصصين، ووضعت عدة توصيات وستعمل الى رفعها الى الادارة الاميركية.
وجاء في خلاصة هذه النقاشات انّ المصالح الضيقة والشخصية لبعض مَن في السلطة اللبنانية يدفع في اتجاه تسريع الانهيار الحاصل وتدمير ما تبقى من مؤسسات وركائز الدولة اللبنانية، فيما إعادة الاعمار واصلاح هذه الركائز سيحتاج الى وقت طويل وربما الى عقود.
وأوصى هؤلاء بتوحيد الجهود الدولية ما بين الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الاوروبي ودول الخليج، للضغط على القيادة السياسية للعمل على تشكيل حكومة كفوءة ونظيفة وذات منهج إصلاحي لوقف الانحدار، والسعي للانخراط في البرنامج الموضوع من قبل صندوق النقد الدولي لإعادة انعاش لبنان اقتصادياً.
ويقترح هؤلاء إنشاء صندوق دولي للمساعدات الطارئة لتخفيف النتائج القاسية لحال الفقر، والعمل على دعم قطاع الصحة والتعليم، واعداد خطة تتضمن توفير تمويل قصير الأمد للشركات والمؤسسات التي تشكل أساس الطبقة المتوسطة لمساعدتها على الاستمرار والحفاظ على الوظائف الاساسية ومنع تمدد «الفساد» المتفشّي في مؤسسات الدولة إليها.
والأهم التوصية بدعم الجيش الذي يؤدي دوراً اساسياً في الحفاظ على اللحمة الوطنية ويضمن الاستمرار، ذلك انّ انهيار الجيش سيعني الانهيار الكامل للدولة اللبنانية.
ومن هنا، يمكن تفسير الاستهداف السياسي والاعلامي الذي يتعرض له الجيش بين الحين والآخر. ويركز هؤلاء على ضرورة حماية عائلات الضباط والجنود وسط التدهور المريع في سعر صرف العملة اللبنانية.
وتختم هذه التوصيات بالدعوة لقيام حكومة لبنانية جديدة تكون قادرة على محاربة الفساد ومكافحته، وتعمل على حماية أسس الديموقراطية.