كل يوم تأخير في تأليف الحكومة ينعكس سلباً على العهد بالدرجة الأولى، لأنّ الحكومة تشكّل فرصته الأخيرة، ولو الضئيلة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الثلث الأخير من الولاية الذي تحوّل، بسبب الفراغ، إلى تصريف أعمال.
قد لا تكون المواجهة التي يخوضها العهد في عملية تأليف الحكومة مفهومة، بالنسبة للبعض، لأربعة أسباب أساسية:
السبب الأول، لأنّ من مصلحته ان تتألّف الحكومة أمس قبل اليوم في محاولة، ولو صعبة، لإنهاء عهده ويكون لبنان قد أصبح على طريق التعافي، فيما عدم التأليف يعني تقلُّص فرص الإنقاذ واستمرار التأزُّم فصولاً.
السبب الثاني، لأنّ تضخيم دور العهد وصلاحياته وضعه في مواجهة مباشرة مع الرأي العام الذي يحمِّله مسؤولية الانهيار الحاصل، فيما لم تنجح كل مساعي العهد برمي المسؤولية على ممارسة بدأت منذ العام 1990، لأنّ الناس تحكم على اللحظة، كما انّ حجمه السلطوي يجعله شريكاً أساسياً لما آلت إليه الأمور.
السبب الثالث، لأنّه في المواجهة التي يخوضها يخدم أخصامه الذين من مصلحتهم ألّا يتمكن من تحسين ظروفه، من أجل ان تكون الضربة التي تلقّاها قاضية، وهذا لا يعني انّ هؤلاء الأخصام يضعون العصي في دواليبه، بل لأنّه يريد ان يؤلف بشروطه.
السبب الرابع، لأنّ النهج الذي اعتمده ويروِّج له بأنّه يكسر ولا ينكسر، قد يكون أدّى غرضه في مراحل سابقة. ولكن الناس الجائعة آخر همّها اليوم وجهات النظر الدستورية والصلاحيات، إنما تريد من يُطعم أولادها لتجنيبهم الموت، وبالتالي كان من مصلحة العهد في هذه اللحظة بالذات ان يبدِّل في استراتيجية التعطيل والتفريغ التي اعتمدها لينتزع ما يريده من مواقع ومكاسب، أي ان يبدّلها باتجاه ان يثبِّت في آخر عهده الشعار الذي أُطلق عليه في مطلع عهده وهو «بي الكلّ»، فيخرج على اللبنانيين ليقول لهم إذا كانت استقالتي تشكّل مدخلاً للإنقاذ فلن أتأخّر.
وفي المقابل، فإنّ نقاط القوة التي يرتكز عليها الرئيس المكلّف سعد الحريري، الذي يرفض الاعتذار، تكمن في الآتي:
أولاً، لا يريد ان يكون نسخة طبق الأصل عن الحكومة المستقيلة، تجنّباً لأن يلاقي المصير نفسه، فيما العهد يريد ان تكون حكومة الحريري على صورة حكومة الرئيس حسان دياب، وبالتالي ما الحاجة لحكومة من هذا النوع في حال كانت عاجزة عن معالجة الأزمة؟
ثانياً، لا يريد ان يكون رئيساً بنسخة ثالثة عن رئاسته لحكومتي العهد الأولى والثانية، إنما يريد ان يكون نسخة جديدة في طريقة تعامله مع العهد والرجل القوي داخله النائب جبران باسيل، فيما أحد الأسباب الأساسية لعدم التأليف يكمن في رفض الحريري اللقاء بباسيل رغم كل الوساطات والتدخّلات.
ثالثاً، يستفيد من الاشتباك مع العهد من أجل تحسين صورته سنّياً وخليجياً وأميركياً، فلا تكون الحكومة التي ستتألف، في حال نجح بعدم التراجع، حكومة العهد او الحزب، بما قد يفتح أمامه باب المساعدات الذي ما زال مقفلاً.
رابعاً، يستفيد من شبكة علاقاته الدولية وتحديداً المصرية والفرنسية، من أجل تحميل العهد مسؤولية الفراغ والتعطيل، والظهور بمظهر من ينفِّذ المبادرة الفرنسية عن طريق التزامه بمعاييرها.
خامساً، يستفيد من رفض كل قوى التأليف للثلث المعطِّل الذي يسعى إليه العهد، كما يستفيد من غياب اي حليف او حاضنة للعهد، لا مسيحياً، ولا إسلامياً، وحتى «حزب الله» الذي لن يتخلّى عنه، يرفض الدفاع عنه بشكل علني، إنما يحاول الإمساك بالعصا من وسطها.
سادساً، إذا صحّ انّ الثنائي الشيعي التزم بالمعيار الذي وضعه الرئيس نبيه بري بتعيين الوزراء «لا معي ولا ضدّي»، فلا يستطيع العهد ان يستثني نفسه من هذه القاعدة.
سابعاً، صحيح انّ «حزب الله» لن يقبل بتأليف الحكومة على حساب العهد، ولكنه لن يوافق العهد بالمقابل على دفع الحريري إلى الاعتذار، لأنّه يعتبره الفرصة الوحيدة والأخيرة للحفاظ على الستاتيكو الحالي، ولن يُكلّف اي رئيس غير الحريري له علاقاته الخارجية وقدراته على تحريك الوضع.
ثامناً، لا يستنزف عدم تأليف الحكومة من رصيد الحريري، بل يستنزف من رصيد العهد، إذا كان هناك من رصيد متبقٍ، وبالتالي يبقى الحريري في طليعة الأسماء المرجحة لترؤس حكومات العهد الجديد، فيما مصير العهد الحالي سيكون المجهول.
وحيال هذا الواقع، فإنّ لعبة عضّ الأصابع التي اعتاد عليها «التيار الوطني الحر» بالاتكاء على «حزب الله» أصبحت تلعب ضده، والشطارة لا تكون في التمسّك بالوسيلة التي اعتمدها وحقق المكاسب السلطوية عن طريقها، لأنّ المهم في كل شيء هو النتيجة والهدف لا الوسيلة التي أضحت، مع الأزمة الحالية والمسؤولية الملقاة على العهد الذي بدأ العد العكسي لنهاية ولايته، خارج الصلاحية، وبالتالي، كان يجب عليه ان يبدِّل في الوسيلة التي يتبعها، خدمة لهدفه الأساسي، وهو ان يحافظ على بعض رصيد وماء وجه، وألّا يعزز أوراق أخصامه المستفيدين بتصوير عهده بعهد الفشل والكارثة غير المسبوقة.
ولكن التفسير الوحيد لهذا التمسُّك غير المفهوم للعهد بالوسيلة التي اعتاد استخدامها وفقدت صلاحيتها، يكمن في الاعتبارات الباسيلية الآتية:
الاعتبار الأوّل، انّ التحدّي الأساسي لباسيل لا يتعلّق بالفترة المتبقية من ولاية العهد، إنما بالمرحلة التي ستلي نهاية الولاية، وهذا ما يفسِّر الصراع الكبير حول الحكومة التي يريد باسيل الإمساك بمفاصلها وانتزاع الثلث المعطِّل منفرداً، من أجل ان يتمكّن من التحكُّم بقرارها بعد الفراغ الرئاسي.
الاعتبار الثاني، انّ أولوية باسيل منذ مطلع عهد الرئيس عون كانت خلافته، ولو تمّ التركيز على إنجاح العهد لما تدهورت الأمور بهذا الشكل، ولكن منذ اللحظة الأولى تمّت تبدية الخلافة على إنجاح العهد، فيما لو حصل العكس لما خرج باسيل من السباق الرئاسي، ومن كانت أهدافه منذ مطلع الولاية رئاسية لن يبدّلها في نهايتها.
الاعتبار الثالث، يؤشر الى انّ الصراع على انتزاع الثلث المعطِّل لا علاقة له بإنجاح الثلث الأخير من ولاية عون، إنما يدل الى نية باسيل إمساك قرار الحكومة قبل الفراغ الرئاسي وبعده تحديداً، في مؤشر إلى انّ البلاد مقبلة على فراغ رئاسي طويل، يريد رئيس «التيار الحر» إبّانه ان يحافظ على سيطرته على الحكومة، فلا تنتهي هذه السيطرة مع انتهاء الولاية، وبما يجعله في موقع قوة في الاستحقاق الرئاسي المقبل.
الاعتبار الرابع، انّ باسيل الذي يربطه تحالف استراتيجي مع «حزب الله»، يخشى ألّا يصطف معه الأخير في كل شاردة وواردة حكومية، لأسباب لها علاقة بالحزب ومصالحه، فيكتفي بدعمه استراتيجياً ويترك الأمور التكتية وفق الملف المطروح، وهذا ما يخشاه باسيل، الذي يريد ان يضمن السيطرة والمقايضة في الصغيرة والكبيرة.
فلا تفسير لهذا التمسك بالثلث المعطِّل، ولا لهذا الإصرار على النهج التفاوضي نفسه برفض التنازل، سوى بحسابات ما بعد ولاية عون، خصوصاً انّ باسيل كان فاتح البطريرك بشارة الراعي صراحة في هذا الموضوع، عازياً السبب لاعتبارات مسيحية لها علاقة بالشراكة، وكي لا تكون الحكومة بعد الفراغ برأس واحد، معتقداً انّ هذا التفسير سيجعل البطريرك في موقع الداعم لطرحه، فيما الهمّ الأساسي للراعي فرملة الانهيار والجوع المتمدد.
ولا مؤشرات إلى انّ باسيل في وارد تغيير نهجه وأسلوبه، والخطأ الذي ارتكبه في مطلع العهد بإعطاء الأولوية للخلافة يرتكبه نفسه اليوم، فيما الأولوية كانت وما زالت لإنجاح العهد، الذي وحده يمنحه فرصة في رئاسة الجمهورية، وبدلاً من ان يستفيد من الحريري الذي يشكّل دوره فرصة للعهد لا العكس، قرّر كسره، ولو اتخذ الحريري مثلاً الموقف نفسه للدكتور سمير جعجع بالاستقالة ورفض التعايش مع الفريق الحاكم وتغطيته، لكان هذا الفريق في ورطة حقيقية، وبالتالي كان عليه ان يبدي بعض ليونة، وهي كفيلة مع الوقت بإعادة النسخة القديمة من الحريري، بإحياء التعاون الذي كان سابقاً بينه وبين باسيل. ولكن يبدو انّ الفريق الذي شبّ على شيء شاب عليه، والخاسر في هذه المعركة هو عون واستطراداً، باسيل لا الحريري.