ظهر التناغم واضحاً في لقاء الأمس بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري، في قراءة المشهد الحكومي. ففيما لفت الحريري بعد اللقاء الى انّه «ليس هناك من تقدّم»، قال بيان القصر، إنّه «لم يأتِ بجديد». وهو ما قدّم مؤشراً سلبياً الى نهاية محتملة لمشوار «المبادرة الفرنسية». وانّ على المعنيين جمع اوراق «طاولة قصر الصنوبر» لبلّها وشرب مياهها. كيف ولماذا؟
جزم مراقبون اطلعوا على شكل لقاء عون والحريري وتوقيته ومضمونه، بأنّه اللقاء الخامس عشر، بعد طول انقطاع بينهما، امتد من 23 كانون الاول العام الماضي. ولذلك، فإنّه لا يستحق ان يكون اللقاء الاول، الذي كان يمكن ان يحيي جهود تأليف الحكومة كما كان متوقعاً بخجل. فقد كان الأمل معقوداً على مثل هذه الخطوة الإيجابية، لمجرد ان ركب الحريري سيارته وتوجّه الى القصر الجمهوري، في توقيت دقيق رُبط بحصيلة جولته الخارجية والمفاوضات والمناقشات التي رافقت الاتصال الطويل بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ونظيره الاميركي الجديد جو بايدن بعد دخوله البيت الابيض، والذي احيا ما سُمّي «المبادرة الفرنسية المتحورة».
كان ذلك متوقعاً في سياق الحديث الذي دار في الايام الاخيرة عن الاجواء الإيجابية التي اوحت بها «الطحشة» الفرنسية الجديدة في اتجاه طهران وبعض العواصم العربية والخليجية، التي تناغمت مع مبادرتها «المترنحة»، وما استجرته من جولات للرئيس المكلّف على هذه العواصم العربية منها، وصولاً الى «العشاء السرّي» مع ماكرون ليل الاربعاء - الخميس.
وعلى وقع ما آل اليه لقاء امس من فشل من امكان العودة الى البحث في التشكيلة الحكومية، فقد أظهرت زيارة الحريري لعون انّها كانت مبادرة من طرف واحد. فهو لم يكن يتوقع ان يحصل اي تقدّم قياساً على الأجواء التي انتهى اليها «عشاء باريس» مع ماكرون، حيث كان الوقت كافياً للتداول في المعلومات التي تبلّغتها خلية الازمة الفرنسية، من انّ كل ما هو مطروح في بيروت يدل الى صعوبة «الإقلاع» بالمبادرة الفرنسية، ان بقيت متمسكة بخياراتها الحكومية السابقة من دون اي تعديل. وهو ما استنتجه المراقبون في ترجمتهم لما سمّوه بـ «الرسائل السلبية المتبادلة» - ولو بشكل غير مباشر - بين باريس من جهة وقصر بعبدا وسنتر ميرنا الشالوحي من جهة اخرى. وهو ما يمكن الإشارة اليه بعناوينه الكبرى، من خلال جدول المقارنة بين الطروحات الفرنسية، وتلك التي عبّر عنها رئيس الجمهورية والبيانات الصادرة عن تكتل «لبنان القوي» وتصريحات قادة «التيار الوطني الحر».
ولعلّ ابرز ما توقف عنده المراقبون يكمن في حجم الإنقسام الذي عبّرت عنه مواقف الطرفين، والذي يمكن الإشارة اليه بملاحظتين اساسيتين هما:
- تأكيدات فرنسا انّ ما حملته مبادرتها من مواصفاتها الثابتة لـ «حكومة المهمّة» في تركيبتها الخالية من اي ثلث معطل، ونوعية وهوية وزرائها الحياديين المستقلين بعيداً من الحزبيين، عدا عن «خريطة الطريق» التي رسمتها لتقود البلاد الى مرحلة التعافي الاقتصادي والنقدي وإعادة اعمار ما هدّمه انفجار مرفأ بيروت وإطلاق برامج التدقيق الجنائي والإصلاحات البنيوية المقرّرة في القطاعات الكبرى التي توقف النزف الحاصل في الخزينة العامة وارتفاع حجم الدين العام وكلفته الباهظة.
- إصرار رئيس الجمهورية وقادة «التيار الوطني الحر» على حكومة عشرينية، بما يؤدي الى استعادة «الثلث المعطل»، من دون اي مساعدة غير مرغوب بها في الثلث الاخير من العهد من وزراء «حزب الله» والحلفاء الآخرين، كما بالنسبة الى الإصرار على تسمية وزرائه المحسوبين من حصة رئيس الجمهورية والتيار في آن، لصعوبة الفصل بينهما، ضماناً لثقة يمكن ان يفتقدها ثنائي بعبدا ـ الشالوحي في أي لحظة. وتأكيداً لمبدأ حق رئيس الجمهورية في المشاركة الفعلية في تشكيل الحكومة وعدم اعتباره «صندوق بريد» تودع فيه التشكيلة الحكومية، ان بقيت على صيغة تشكيلة «9 كانون الاول الماضي»، وضماناً لحق المسيحيين ومنع استهدافهم مرة أخرى من ثلاثي بدا يذر بقرنه، من خلال التناغم القائم بين «بيت الوسط» و»عين التينة» و»كليمنصو»، والتي يروج لها قادة «التيار الوطني الحر».
وما زاد في الطين بلة، انّ الحريري سلّم عون امس مجدّداً تشكيلة حكومية كاملة من 18 وزيراً، احتفظ من خلالها بالتوزيعة السابقة للحقائب، تاركاً لنفسه حقيبتي الداخلية والعدل، مقترحاً كلا من القاضي زياد ابو حيدر للأولى والمحامية لبنى عمر مسقاوي للثانية. وهو ما دفع بالرئيس عون الى ردّها له على الفور.
وبناءً على ما تقدّم، يعترف المراقبون انّ زيارة الحريري لعون أمس كانت «ضربة معلّم» سعياً الى «صك براءة» بالتزامه وحيداً المبادرة المطروحة. فهي لم تكن متوقعة بأي من المعطيات السلبية التي كانت مدار بحث في لقاء الاليزيه، لما اكتنفه من غموض ملتبس نتيجة الأجواء السلبية التي توصلت اليها قراءة الرجلين للشروط التي عليهما مواجهتها. ولم يكن من الصعب فهم ذلك. فقد قصد الحريري الكشف عن «نقاط الخلاف الكبرى» لمجرد اصراره على حكومة الـ 18 وزيراً من «الاختصاصيين» الذين لا «يستفزون أي فريق سياسي» ومن «غير التابعين لأحزاب سياسية» لتسهّل «الانفتاح» على المجتمع الدولي، و»يعملون فقط للمشروع الذي يُقدّم امامهم».
ولم يكتف الحريري بتعداد العِقَد المستعصية بهدوء لافت. فقد وجّه ما يشبه الإنذار الى كل «حلفائه وخصومه» على طريقة «اللهم اشهد أني بلّغت» عندما قال: «ليتحمّل كل فريق سياسي مسؤولية مواقفه من اليوم فصاعداً».
وبناءً على ما تقدّم، فقد كشفت زيارة الحريري للمراقبين، انّ الحديث عن المبادرة الفرنسية بات مملاً. وانّ الكلام عن تأييدها لدى جميع اللبنانيين بات «كذبة كبيرة» لا تُحتمل، ولا يمكن ترجمتها بأي من اللغات الاجنبية، ولا سيما منها الفرنسية. فالحقيقة الدامغة التي انضجتها زيارة الحريري لعون قالت بما لا يرقى اليه الشك، انّ معظم بنودها قد سقطت بمجموعة من «الضربات القاضية»، وصولاً الى قول احدهم انّ ما جرى في الامس أنهى «خريطة الطريق الفرنسية الى الحل، وانّ على من يعنيهم الامر جمع «اوراق لقاء قصر الصنوبر» من اجل «غليها وشرب مياهها». وانّ ما يناقض هذه المعادلة لا يعدو سوى انتظار ما يشبه الأعجوبة لنقض هذه الحقيقة ولو بعد حين.